اللاجئون السوريون ليسوا مرضى نفسيين
شنت الدول العربية الخليجية، والسعودية بالذات، حملة علاقات عامة مضادة للرد على الاتهامات التي توجه إليها بالعنصرية تارة، وعدم الإنسانية تارة أخرى، من جراء إغلاق أبوابها في وجه اللاجئين السوريين الفارين بأرواحهم من الموت إلى قوارب وشاحنات الموت في البحر المتوسط، أو على الطرق الأوروبية بحثا عن «أي حياة» فقط، وليس «حياة كريمة».
هذه الحملة التي اتخذت إشكالات عدة، مثل نشر مقالات في الصحف أو برامج حوارية في شبكات التلفزة الخليجية واسعة الانتشار، جاءت بعد أن دخلت صحف غربية على الخط مثل «نيويورك تايمز» و«الغارديان» ومحطة «بي بي سي»، وتساءلت عن عدم استقبال الحكومات الخليجية لإخوانهم العرب والمسلمين الذين يتدفقون إلى أوروبا، ويجدون كل الترحيب والمساعدة من شعوبها وحكوماتها في آن.
أحد الزملاء الكتاب السعوديين قال إن المملكة استقبلت مليوني لاجيء سوري، ووفرت لهم فرص العمل والإقامة، وما يقرب من المليون من اليمنيين أيضا، وسمحت لهم بالعمل في المملكة، بينما ذهب كاتب كويتي آخر إلى تبرير عدم استقبال لاجئين سوريين في بلدة ونظيراتها الخليجية بالقول أن دول الخليج حديثة الاستقلال، وهي غير مؤهلة لاستقبال اللاجئين العرب أو غيرهم بأعداد كبيرة، مثل الدول الأوروبية التي تملك اقتصادا متنوعا، وتستطيع تأهيل هؤلاء واستيعابهم في مصانعها ومعاملها، مضافا إلى ذلك، والقول للكاتب نفسه، وجود مشكلة ديمغرافية في الخليج، حيث تشكل نسبة «الأجانب» أكثر من تسعين في المئة في بعض البلدان، ثم إن هناك مشاكل واعتبارات سياسية وأمنية يجب أخذها في عين الاعتبار.
بداية نقر بحق الدول الخليجية في الدفاع عن موقفها في مواجهة الاتهامات الموجهة إليها سواء من صحف أو من قبل حكومات غربية بعدم استقبال اللاجئين السوريين، أو أي لاجئين على الإطلاق، ولكن من حقنا في الوقت نفسه، نحن الذين ننتمي إلى العقيدة والقومية والجغرافيا نفسها أن نفند هذه التبريرات الواحدة تلو الأخرى، ونطرح ردودنا التي تؤكد عدم اقتناعنا بها، أو معظمها، على وجه أدق.
فالقول أن الدول الخليجية حديثة الاستقلال فإن هذا مردود عليه بالقول، أن المملكة العربية السعودية «الشقيقة الخليجية الكبرى» استقلت عام 1932، أي قبل مصر والسودان والجزائر والمغرب وسورية والعراق وليبيا، والقائمة تطول، نعم إن دول الخليج الصغيرة، سكانا ومساحة، استقلت في أوائل السبعينات، ولكن هذا لا يمكن أن يبرر عدم استقبال لاجئين عرب تعرضت بلادهم للتدمير والتفتيت، وفوضى السلاح لأسباب عديدة، أبرزها تدخلات دول خليجية بالمال والسلاح، وتجنيد المقاتلين، وتأسيس معارضة مسلحة، مدعومة بفتاوى الجهاد لإسقاط النظام ونجدة الأشقاء السوريين.
لا نجادل بأن هناك مئات الآلاف (وليس مليونين) من السوريين يقيمون حاليا في المملكة العربية السعودية، ولكن هؤلاء لم يذهبوا إليها كلاجئين، وإنما كمتعاقدين في معظمهم للعمل في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، أسوة بأكثر من عشرة ملايين عامل أجنبي نسبة كبيرة منهم من مصر أو دول جنوب شرق آسيا، فهل يمكن أن نطلق صفة اللاجئين على هؤلاء أيضا؟ وهل توصيف اللجوء ينطبق بأثر رجعي؟
ولعل النقطة الأهم التي تتردد كثيرا هذه الأيام في المقالات «الدفاعية» الخليجية هي تلك المتعلقة بالتركيبة السكانية والعامل الديمغرافي المتفرع عنها الذي يشكل حساسية أمنية وسياسية وعرقية خاصة لدى الحكومات الخليجية، وتساق دائما لتبرير إغلاق أبواب التجنيس أو التوطين، أو حتى منح حق الإقامة الدائمة لمن عاش آباؤهم لعدة عقود في البلاد، ولم يعرف أبناؤهم الذين ولدوا فيها غيرها، وتشربوا ثقافتها وعاداتها، وحيوا علمها كل صباح في المدارس، ويطربون لأغاني مطرباتها ومطربيها، ويتحدثون بلهجتها.
مع احترامنا لكل الحجج التبريرية التي ساقها زملاء كثيرون في الدفاع عن سياسات غير مقبولة عربيا أو أجنبيا، فإن جميع هذه الحجج غير مقنعة، وتعطي نتائج عكسية تماما، وتفاقم من حدة الانتقادات، بل تثبيتها، بدلا من أن تطوقها أو توقفها.
السودان ليس دولة صناعية عظمى تضاهي أوروبا في إنتاجها النفطي، أو الصناعي التقليدي، بل دولة فقيرة معدمة، ومع ذلك استقبلت آلاف اللاجئين السوريين، والكلام نفسه يقال أيضا عن الأردن، بل سورية نفسها عندما استقبلت ملايين العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين.
الدول العربية الفقيرة مثل مصر لم تفتح أبوابها فقط، وإنما قلوب مواطنيها أيضا، لاستقبال آلاف من الكويتيين اللاجئين إليها، والفارين من الغزو العراقي، وربما يفيد التذكير بأن جميع الدول الخليجية التي ترفض الآن استقبال السوريين استقبلت مئات الآلاف من الكويتيين وعاملتهم كلاجئين من درجة «خمس نجوم» تماما مثل بريطانيا التي استقبلت ما يقرب من 300 ألف منهم، وتحولت أحياء مثل ماربل آرتش ونايتسبرج الإنكليزية «القحة» إلى مدن كويتية.
إغلاق أبواب دول الخليج وشبابيكها في وجه الأشقاء السوريين سيظل غير مبرر على الإطلاق، مهما سال حبر حجج وفصاحة عبارات المدافعين عنه، فمن غير اللائق أن يظهر أحد المتحدثين الخليجيين ويقول أن من أسباب عدم استقبال بلاده للاجئين السوريين معاناة معظمهم من صدمات نفسية، وارتفاع مستوى المعيشة في الدول الخليجية بحيث يصعب على هؤلاء التكيف مع هذا الوضع، وكأن دول الخليج أغلى من لندن وباريس وبرلين التي تستضيفهم بالآلاف حاليا، وإذا كان هؤلاء مرضى نفسيين من جراء الحرب وأهوالها، فلماذا لا نعالجهم أليسوا عربا ومسلمين و«سنّة»؟ إنه منطق أعوج، بل هو منطق من لا منطق له.
الحكومات الخليجية يجب أن تعيد النظر في سياساتها ومواقفها تجاه الأشقاء العرب، لاجئين كانوا أو مقيمين، خاصة أنها باتت أكثر استهدافا من قبل من يريدون تفتيت المنطقة وزعزعة استقرارها، فلا توجد أي دولة «محصنة» من هذا المخطط، وها هي المملكة العربية السعودية تنزلق بشكل متسارع إلى الحفرة نفسها.
فمن كان يخطر بباله أن نصحو يوم الخميس الموافق الثاني من آب (أغسطس) عام 1990 على مئات الآلاف من الكويتيين يهيمون على وجوههم ويتحولون إلى لاجئين في ظرف ساعات، ومن كان يتخيل أن ملايين من أبناء العراق العظيم المستقر سيشكلون أكبر نسبة من اللاجئين بين نظرائهم في العالم؟ والشيء نفسه يقال أيضا عن الأشقاء السوريين حاليا.
لا نتمنى مطلقا، ونقولها من أعماق قلوبنا، اللجوء والتشرد لأي شعب خليجي شقيق، نحن الذين تعرضنا للتهجير والهجرة ثلاث مرات، ولهذا نطالب الحكومات الخليجية أن تكون أكثر رحمة وإنسانية، وتماهيا مع الواقع الدولي الجديد، وتستقبل الأشقاء السوريين، وتكرم وفادة كل العرب الآخرين، وتوفر لهم الاقامة، وتوطن نسبة كبيرة منهم أسوة بـ«الكفار» الأوروبيين، فمن يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ومفاجآته في منطقتنا التي تعتبر الأكثر تقلبا في العالم بأسره.