عبد الإله بلقزيز
الكونية الحق ليس ما تفرضه قوة غالبة من خصوصيات لها على غيرها من القوى – نظير ما قد تفرضه عليها من تبعية اقتصادية وخضوع سياسي – لأن هذا فعل من أفعال الإرغام والإكراه، التي لا تتناسب ومبدأ الكونية من حيث الأساس.
الكونية الحق هي ما تجد فيه المجتمعات والأمم -أو أغلبها- ما يناسبها فتعتنقه من غير شعور بالاغتراب، وحتى من دون أن تتوقف كثيرا، أو قليلا، حول ما إذا كان ما في تلك الكونية المرغوب فيها والمستحبة ما ينتمي إلى عناصر محلية، أو إلى خصوصيات، أو هو ثمرة من ثمرات المنتوج الذاتي؛ ذلك أن الذات سريعا ما تتكيف مع المعطى الخارجي الذي تتلقاه بالقبول، فتستدخله في نسيج ما هو ذاتي وخاص من غير مركب نفسي.
هكذا هو شأن الكونية في أطوار تاريخها كافة: تُسْتَقْبَل قيمها ومعطياتها من أمم ومجتمعات عدة ما كانت، يوما، مساهمة في إنتاجها؛ إذ يكفيها أنها وجدت نفسها فيها، أو عثرت فيها على وجه منفعة، وبعدها ما أَهَمَّها إن كان لغيرها حصة فيها أعظم أو أقل من حصتها هي أو لم تكن. من تراه اليوم من الأوروبيين يسأل من شارك الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين إطلاق الثورة العلمية، في فجر العصر الحديث؛ أو من شارك بريطانيا إطلاق الثورة الصناعية؟ إذ ينسب الأوروبيون، جميعهم، تلك الثورات إليهم من غير تمييز ويحسبونها صناعة أوروبية، وكذلك يفعل العالم حين يتحدث عنها. ومن تراه اليوم من المسلمين يتساءل عما قدمه العرب وحدهم، أو الفرس وحدهم، أو الترك وحدهم للحضارة العربية الإسلامية، وعما كان لدى هؤلاء القوم يَنْقُص قوما آخرين أو يقل نصيبهم فيه؟ فلقد وقَر في نفوس هذه الأمم الكبرى شعور مشترك بأنها جميعها شريك فعال في صنع تلك الحضارة الكونية.
على أن من بين بعض الأسباب التي تحمل أمة أو مجتمعا ما على استقبال بعض القيم والمعطيات المنحدرة من خصوصية اجتماعية أو ثقافية أو دينية ما وجود مشترك عميق، ولكنه غير موعى به من قبل من يستقبل تلك القيم ارتضاء وقبولا، فيصادق على كونيتها من غير مشاحة. ومع أن بعض تلك القيم الكونية يبدو وكأنه صناعة حديثة، تعود إلى ما قبل بضعة قرون، وتعود إلى رقعة جغرافية تشغلها مجموعة بعينها من الأمم – أو هكذا، على الأقل، تحاول الإيديولوجيات الرسمية والتدوين التاريخي الرسمي في دول الغرب تصوير الأمر – إلا أن حفرا قليلا يكفي كي يزيح هذه القشرة المزعومة ويُطْلِعنا على الجذور العميقة لتلك المبادئ والقيم، وعلى جغرافيا نشأتها المختلفة عن المفترض فيها أنها جغرافيتها الأصل. أما المفارقة الكبرى فتتجلى حين نكتشف أن جذور تلك القيم دينية في الوقت عينه الذي يدعي فيه من ينسُبون إنتاجَها إليهم أنهم اهتدوا إلى هذه الكونية الجديدة بعد قطيعة مدنيتهم مع الدين!
لم يعد ثمة من شك، لدى معظم الدارسين في التاريخ الثقافي والديني، في أن قسما كبيرا من القيم الغربية موروث وليس مستحدثا؛ موروث عن الثقافة الوثنية الإغريقية- الرومانية، وعن الثقافة الدينية المسيحية، وأن أوروبا – والغرب عموما – لم تفعل سوى أنها أعادت إنتاج تلك القيم من طرف تياراتها الفكرية التي انقسمت، هي الأخرى، بين تيارات تقارع الموروث الوثني القديم (المتجدد مع النهضة) وأخرى تقارع الكنيسة والموروث المسيحي. هكذا انتشرت قيم اللذة، والإيروس، والقوة، والجمال مستعيدة ميراث إغريقيا وروما، وقيم التسامح، والحرية، والفضيلة، والعدالة، والتكافل.. مستعيدة القيم المسيحية. تعممت القيم تلك – في العالم الأوروبي ابتداء – بحسبانها قيما حديثة، ولم يُنْتَبَه إلى جذورها القديمة، وكذلك استُقْبِلت في أصقاع الأرض جميعا بما هي قيم حديثة. وهكذا فالذين تلقوها وارتضوها ووطنوها في منظوماتهم الداخلية، عثروا فيها عما ينتمي إلى موروثهم – الوثني والديني – من دون أن يعوا ذلك وعيا، بل كان يكفيهم الشعور بأنها مألوفة ومستساغة كي يُقبلوا عليها من غير نفور.
من البين، إذن، أن واحدا من الأسباب التي تجعل بعضا من القيم يفيض عن نطاق الخصوصية ويصير كونيا، أن الذين يتلقونه – أفرادا وجماعات ومجتمعات – من خارج مصدره تَلَقيَ القبول والرضا يفعلون ذلك بتأثير خفي من ذلك المشترك العقدي والحضاري. هذا ما يدفع مجتمعات غير مسيحية الغالبية من أبنائها، مثل المجتمعات العربية والإسلامية مثلا، تستقبل الكثير من القيم الغربية الحديثة استقبالا إيجابيا، لأنها لا تجدها برانية عنها أو منافية لمألوفها وموروثها، حتى من غير أن تعي أن الأمر فيها يتعلق بانتهال من مشترك ديني توحيدي عميق. وهكذا، أيضا، فإن القيم التي يُرْفض أن يُنْظَر إليها، هنا وهناك، بوصفها كونية ويُرفض- بالتالي- قبولها هي مما لا تقع في دائرة ذلك المشترك الثقافي والعقدي العميق الموروث، بل في دائرة المواريث الخاصة.
نافذة:
من بين بعض الأسباب التي تحمل أمة أو مجتمعا ما على استقبال بعض القيم والمعطيات المنحدرة من خصوصية اجتماعية أو ثقافية أو دينية ما وجود مشترك عميق ولكنه غير موعى به