الكواليس السرية لاتفاق المغرب مع موريتانيا
أكثر من ستين سنة من الأزمات والمصالحات بين الرباط ونواكشوط
«في 28 نونبر 1960 تأسست موريتانيا. لكن منذ ذلك التاريخ، يصعب فعلا القول إن البلاد عاشت استقرارا سياسيا.
18 سنة مرت على وصول المختار ولد داداه إلى السلطة ليحدث أول انقلاب عليه. فترة استقرار سياسي نسبي عرفت الكثير من المواجهات السياسية بسبب المشاكل في الصحراء، حافظ خلالها الرئيس على منصبه. لكن حكمه انتهى في يوليوز 1978 بعد أن أزاحه مصطفى ولد السالك، المعروف في الجزائر بـ «دمه الساخن»، كما علقت الصحافة الجزائرية على وصوله إلى السلطة.
الملك الراحل الحسن الثاني حذر الرئيس الموريتاني من ذلك الانقلاب ستة أشهر قبل وقوعه.
نصف قرن وأكثر من التقارب والتباعد بين المغرب وموريتانيا. لماذا لا تزال هناك أوساط تتعامل مع قضية الصحراء بكثير من الحساسية؟»
سوء الفهم الكبير مع موريتانيا.. بددته السياسة وبعثته الانقلابات
في سنة 1960 كان المغرب يدبر موضوع موريتانيا باحتياط. استياء كبير بسبب المآل الذي صارت إليه الأمور، خصوصا وأن الملك الراحل محمد الخامس كان يستقبل الصحراويين منذ عودته من المنفى سنة 1955، لكي يجدد معهم ما أسمي وقتها «الروابط التاريخية لبيعة 1927».
نشرت مجلة دعوة الحق، في عددها الخامس والأربعين، سنة 1961، أي عاما فقط على استقلال موريتانيا، مقالا افتتاحيا مطولا، يمكن اعتباره اليوم وثيقة تاريخية مهمة للغاية، تعكس التوجه العام لنخبة السياسيين المغاربة، وموقف المغرب مما كان يجري في مورتيانيا، وكواليس تأسيس هذا البلد. وجاء في المقال المطول ما يلي:
«في اليوم الثامن والعشرين من شهر نونبر الماضي مرت سنة كاملة على الاستقلال المزعوم الذي منحته فرنسا لموريتانيا، وأعلنه السيد ميشيل دوباري أمام أربعين نفرا أطلق عليهم منذ مدة نواب الشعب الموريتاني.
ولن نعني في هذا المجال بالأحداث ذات الصبغة الخطيرة التي سبقت وأعقبت ذلك اليوم من العام الماضي، كما لن نتطرق إلى بسط الملابسات القانونية والدولية فذلك ما تعرضنا له مرارا على صفحات هذه الجريدة وأصبح محل فهم دقيق من طرف جميع المتتبعين للقضية الموريتانية.
والذي سنعنى في هذا الحديث بتحليله وإلقاء الضوء عليه أو التذكير به هو ما فعله المتآمرون في غضون السنة المنصرمة، والفشل الذي كان يلاحقهم وهم يحاولون إنهاض جمهوريتهم العجيبة على قدميها الخائرتين.
لم تكن الوضعية السياسية في نهاية 1960 مشجعة للمضي في تنفيذ المخطط الذي كان معدا لموريتانيا، فحزب النهضة الذي شهد بعثا جديدا في تلك الفترة بمناسبة الحملة الانتخابية البلدية وتنسيق الجهود بينه وبين الحزب الاشتراكي الإسلامي، والتضعضع الذي ظهر محققا في صفوف الحزب الحاكم «حزب التجمع الموريتاني» بعد تبلور الخلاف بين كتابه العام المختار ولد داداه ومديره السياسي المختار أنجاي، خلقت هذه الظروف الجديدة وضعا غير متوازن في التقابل السياسي، وجعل الأفكار الوطنية والوحدوية تستقطب مزيدا من العناصر الواعية والمناضلة.
وكان لابد لابن داداه أن يختار التصالح والتعاون مع المعارضة، قبل أن تؤدي به عزلته المتزايدة إلى التطويح به في نهاية الأمر. وهكذا أصدر في 29 غشت 1960 بيانه الشهير لا باعتباره رئيسا للحكومة ولكن بوصفه أمينا عاما لحزب التجمع، وجاء في ذلك البيان الذي دعا فيه إلى الاتفاق مع أحزاب المعارضة حول مائدة مستديرة «بأنه قد حان الوقت للوصول إلى حل يرضي الجميع» وأنه أي المختار ولد داداه «مستعد باسم حزبه للدخول في هذا التفاوض بإخلاص وحسن نية».
وكانت المعارضة تعرف حقيقة هذا الداعي، ومتأكدة من أنه إن كانت للمختار قوة وشكيمة فإنهما مستمدتان من الوجود الفرنسي في موريتانيا، وبدافع من غيرتها أرادت أن تعطيه فرصة أخرى ليبرهن على النية الحسنة التي ادعاها لنفسه ولحزبه الرمزي وإذا تم ذلك على الوجه المرغوب فلا شك أن العزلة سوف تتحول عنه إلى الاستعمار نفسه، وتصبح موريتانيا متحررة إذا صلحت العزائم وتكتلت الصفوف.
وبالفعل فقد اجتاز الزعماء الموريتانيون الخمسة حدود السنغال نحو نواكشوط معتقدين أنهم سيجدون النوايا الحسنة في انتظارهم، ولكن ماذا وجدوا؟ الكل يعلم أن ذلك النداء المفعم بالطيبة والكرم لم يكن سوى شركا وقع فيه الزعماء الذين أصبحوا بعد ساعات من وصولهم سجناء قرية (تشيت) في الحوض الموريتاني.
ولم يمر ذلك بالسهولة التي تصورها (بورغارال) مدير الداخلية آنذاك، لان الجماهير أخذت هذه المرة زمام المبادرة، ومرت الشهور الأخيرة من السنة الماضية مسجلة أحداثا في منتهى الشدة لاحظها جميع الذين حضروا حفلات الاستقلال المزيف. وظل الحال كذلك حتى بداية شهر مارس الذي بدأ بأنه كان توقيتا للقيام بعمل واسع ضد الفرنسيين وحكومة ولد داداه».
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ومع مرور السنوات صارت العلاقات المغربية الموريتانية متينة، إلى درجة أن الملك الراحل الحسن الثاني كان قد حذر الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه، أول رئيس منتخب في البلاد، بأن انقلابا يستهدفه. الملك الراحل الحسن الثاني تواصل مع المختار، بحسب وثائق الأرشيف في يونيو 1978 محذرا إياه مما يحاك ضده، واكتشف الرئيس متأخرا جدا، أن الملك الراحل كان يحاول إنقاذه وإنقاذ موريتانيا من حالة ركود أدخلتها فيها الانقلابات العسكرية المتلاحقة التي لم تهدأ منذ تلك السنة إلى حدود سنة 1984.
لماذا يُعتبر ملف نواكشوط حساسا للغاية؟
في آخر نسخة من المعرض الدولي للكتاب قبل جائحة كورونا، كانت موريتانيا ضيف الشرف على المعرض الذي يعتبر الحدث الثقافي الأهم في شمال إفريقيا، وحدث احتفاء كبير رسمي بالكتاب الموريتاني ومثقفي البلاد.
التكريم كان طيا لصفحة التوتر بين البلدين.
والحقيقة أن المد والجزر بين المغرب وموريتانيا قصة طويلة، لم يفلح في التأثير على قوة الروابط التاريخية بين الرباط ونواكشوط.
سياسيون مغاربة تسببوا في أزمات بين البلدين بسبب تصريحات حساسة تناولت موضوع كواليس تأسيس موريتانيا والاعتراف بها دوليا ومساعي الملك الراحل محمد الخامس لتجنب الانقسام في الجنوب المغربي في سياق مشحون جدا بسبب الاستعمار الإسباني لمنطقة واسعة جدا جنوب الصحراء.
لماذا لا يزال يعتبر موضوع الاعتراف بموريتانيا وكواليس تأسيسها، من وجهة نظر مغربية موضوعا حساسا في نواكشوط؟
الجواب يبقى معلقا، ولم يسلم من ناره حتى أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين. إذ بمجرد إبدائه رأيه في قضية الصحراء المغربية، حتى سارعت كتائب افتراضية تابعة للجزائر ومناصرة لمليشيات البوليساريو إلى قصفه والتلويح بحساسية المنصب الذي يشغله، وأقحمت موريتانيا في الموضوع، والغاية هي التسبب في قطيعة جديدة بين الرباط ونواكشوط.
عندما جلس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش سنة 1961، كان آخر خطاب للعرش ألقاه والده لا يزال يتردد في أذنه، حيث كشف الملك الراحل موقفا صريحا بخصوص موريتانيا، بدون ترك أي فرصة للتأويلات، ولم تكن الجزائر وقتها قد حصلت على استقلالها بعدُ.
ما وقع أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعي جيدا أن المشكل مع موريتانيا أعمق بكثير من انسحاب فرنسا أو إسبانيا من الموضوع، لأن البلدين معا تركا حقلا كبيرا من الألغام في ملف العلاقات الثنائية.
الملك الراحل الحسن الثاني الذي اشتهر بحنكة سياسية تفوق بكثير المهارات السياسية لمحيطه الإقليمي، احتوى الأزمة مع موريتانيا وسرعان ما أصبح البلدان الجاران متقاربين يجمعهما أكثر مما يفرقهما.
فماذا وقع بعد 1978 لكي تدخل العلاقات طريقا طويلا من المطبات والمنعرجات؟
المختار ولد داداه.. قصة تلميذ دخل السياسة في باريس وأصبح رئيسا في نواكشوط
حسب وثائق الأرشيف الفرنسية فإن المختار ولد محمد ولد داداه، أول رئيس لموريتانيا بعد تأسيسها سنة 1960 قد وُلد في منطقة ما كان يُسمى «غرب إفريقيا الفرنسي».
وبقي في نظر الفرنسيين لسنوات أحد «المحليين» الذين تم تصنيفهم مبكرا، منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي بسبب نشاطه السياسي، في خانة من سوف يُمسكون زمام الأمور بعد انسحاب فرنسا من المنطقة بموجب اتفاقيات مع إسبانيا.
لكن بالنسبة لمغاربة الصحراء فإن ولد داداه كان مغربيا في نظر الكثيرين منهم، خصوصا القبائل التي بايعت السلطان محمد بن يوسف سنة 1927.
وهذه النقطة في حياة قبيلة ولد داداه تبقى من النقط المضيئة التي أعطت المشروعية لأول رئيس موريتاني سنة 1960. على عكس ما رُوج له في الصحافة الجزائرية بعد انقلاب 1978، من أن الرئيس قد خان أبناء بلاده.
وقبل أن تتعقد الأمور في حياة هذا الرئيس الذي صنع مرحلة فارقة في تاريخ موريتانيا، فقد كان أحد المنتسبين ما عرف وقتها بالتيار التقدمي الموريتاني، والذي كان يتكون من نخبة من الشباب الصحراويين ممن درسوا في فرنسا وإسبانيا والمغرب أيضا.
هذا الإطار الذي تأسس سنة 1948، وهي السنة نفسها التي حصل فيها المختار على شهادته التعليمية في فرنسا ليقرر دراسة الحقوق هناك، لم يصل المختار إلى قمته إلا بعد عشر سنوات بالضبط. وكان وقتها المغرب قد حصل على الاستقلال، وكان الملك الراحل محمد الخامس في الرباط يستقبل وفودا من الصحراويين، وكان هناك اهتمام كبير في الداخل والخارج بالمسألة الموريتانية.
بهذا الخصوص، هناك نقطة مظلمة في حياة المختار ولد داداه إذ اتهمه معارضوه بأنه كان قريبا من موقف الإدارة الفرنسية عندما انتسب وهو بعدُ تلميذ إلى الاتحاد التقدمي الموريتاني. فقد كان معروفا أن هذا الاتحاد كان مقربا من مواقف الإدارة الفرنسية ومتناغما معها.
في البداية كانت علاقة ولد داداه مع المغرب متذبذبة، ولم تكن مفهومة بسبب مواقفه المتغيرة. إذ كان يكن احتراما كبيرا للملك الراحل محمد الخامس، لكنه عندما أصبح أول رئيس لموريتانيا سنة 1960، وأطلق عليها «الجمهورية الإسلامية الموريتانية»، سُجل في عهده تضارب في المصالح، إذ أنه من جهة أراد كسب علاقات دبلوماسية مع المغرب، وفي نفس الوقت كان يرمي إلى إرضاء مختلف التيارات المحيطة به، وهو ما كلفه كرسيه لاحقا.
أما كيف وصل إلى الرئاسة رغم وجود منافسين أقوياء له، فالسبب يرجع إلى إشرافه سنة 1957 على تأسيس حزب التجمع الموريتاني الذي خاض به الانتخابات وتغلب على منافسيه.
ومنذ تلك الفترة والمغرب يدبر الملف الموريتاني، إذ كان الملك الراحل محمد الخامس سباقا إلى إرسال أول سفير مغربي إلى نواكشوط، ويتعلق الأمر بالاستقلالي قاسم الزهيري، وهي الخطوة التي تكشف إلى أي حد كان المغرب منفتحا على موريتانيا، بعكس ما روجه معارضو قضية الصحراء المغربية من كون المغرب رفض الاعتراف بموريتانيا منذ البداية.
كواليس استقبالات 1956 التي سبقت تأسيس موريتانيا
في سنة 1959، كان الملك الراحل محمد الخامس متفائلا جدا بخصوص ملف الصحراء، رغم أن بوادر كثيرة للانفصال كانت تلوح في الأفق خصوصا مع مشكل موريتانيا وسيطرة الإسبان على أقاليم كثيرة في الجنوب. كانت القبائل الصحراوية تخوض حربا وجودية ضد الجيش الإسباني، بالإضافة إلى قوات جيش التحرير الذين رحلوا منذ نهاية 1955 والنصف الأول من سنة 1956 إلى الجنوب مرورا بتزنيت وكلميم التي كانت تعتبر بوابة فعلية نحو الأقاليم الصحراوية.
هذه المؤشرات جعلت الملك الراحل محمد الخامس يركز كثيرا على مشكل استقلال الأقاليم الجنوبية من قبضة الإسبان، حتى أنه كلف ولي العهد وقتها بالذهاب مرات كثيرة إلى معقل وجود قوات جيش التحرير في الصحراء لكي يلتقي هناك بعض القيادات ويدبر معهم الترتيبات من أجل خوض معارك ضد إسبانيا.
لكن زعماء القبائل وأعيان الصحراء الذين ورثوا الزعامات عن أجدادهم هناك، كانوا يتحركون في اتجاه الرباط لمبايعة الملك الراحل محمد الخامس. يروي قاسم الزهيري، الذي كان أول دبلوماسي مغربي يزور موريتانيا بصفة رسمية منذ إعلان إقامتها بتسهيلات من الملك الراحل محمد الخامس، أن بعض زعماء القبائل من منطقة العيون وبوجدور جاؤوا إلى الرباط وطلبوا موعدا مع الملك الراحل محمد الخامس، وكاد طلبهم أن يبقى معلقا بين أيدي القائمين على البروتوكول والديوان الخاص بالملك الراحل لولا أنه سمع ممن يثق بهم أن وفدا صحراويا رفيعا حل بالرباط وينتظرون تحديد موعد للقاء معه. وفور علمه بالخبر، أعطى الملك الراحل تعليمات لكي يتم اصطحاب الوفد إلى إحدى قاعات القصر الملكي وتخصيص احتفال خاص لهم ليتم استقبالهم من طرف الملك الراحل، حيث ألقى بينهم كلمة بالمناسبة عبّر فيها عن امتنانه لهم على الزيارة وتسلم منهم رسالة موقعة من الجميع تجدد الولاء له وتعلن التزامها بالدفاع عن وحدة المغرب.
في الحقيقة لم يكن لقيادات الصحراء أي مشكل مع النظام سواء خلال الخمسينيات أو في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني. فقد استقبل بدوره وفودا من الصحراء في القصر الملكي بالرباط فور علمه بوصولهم إليها. وقد كان هذا في مناسبتين لم يتم الإعلان عنهما رسميا في نشرات الأخبار التي تنقل الأنشطة الملكية سواء في بداية الثمانينيات أو حتى في نهاية الستينيات.
فقد كان الصحراوي بنحمو، أحد أبرز الذين طلبوا لقاء الملك الراحل الحسن الثاني في بداية الثمانينيات، وسُر وقتها الملك كثيرا إلى درجة أنه أعطى تعليمات بشكل علني لمرافقيه لكي يصطحبوا معهم الوفد الصحراوي بعد أن لمحهم من بعيد وسط الوفود التي أتت إلى استقباله في مراكش، أشهرا قليلة قبل وفاة الجنرال الدليمي.
والقصة وما فيها أن الوفد الصحراوي الذي كان ممثلا بقدماء جيش التحرير الذين ساهموا في تحرير منطقة الساقية الحمراء وكانوا قد أسسوا فرعهم في منطقة طاطا سنة 1956، قرروا أن يطلبوا لقاء الملك الراحل الحسن الثاني لكن «دسائس» القصور حالت دون أن يصل خبر وصولهم إلى الملك، وهكذا قضوا أسابيع من الانتظار في الرباط إلى أن سمعوا خبر زيارة رسمية للملك إلى مراكش، فقرروا شد الرحال إليها والاصطفاف لتحيته، وكان أثر تعرف الملك عليهم كبيرا، خصوصا وأنه أعطى تعليمات لاصطحابهم فورا إلى القصر حتى يتسنى له استقبالهم بعد انتهاء الزيارة.
انقلابات عسكرية غيّرت علاقة المغرب بموريتانيا
أول انقلاب في موريتانيا حدث سنة 1978، وكانت الحرب بين المغرب وجبهة البوليساريو ألقت بظلها على نواكشوط وحركت الانقلابيين.
في 28 نونبر 1960 تأسست موريتانيا. لكن منذ ذلك التاريخ، يصعب فعلا القول إن البلاد عاشت استقرارا سياسيا.
18 سنة مرت على وصول المختار ولد داداه إلى السلطة ليحدث أول انقلاب عليه. فترة استقرار سياسي نسبي عرفت الكثير من المواجهات السياسية بسبب المشاكل في الصحراء، حافظ خلالها الرئيس على منصبه. لكن حكمه انتهى في يوليوز 1978 بعد أن أزاحه مصطفى ولد السالك، المعروف في الجزائر بـ «دمه الساخن»، كما علقت الصحافة الجزائرية على وصوله إلى السلطة.
لكن المشكل أنه لم يستمر طويلا في منصبه، بل صُدم عندما رُتب انقلاب عليه بعد سنة فقط من تجربته التي لم يستطع خلالها مباشرة أي مهام. وبدا واضحا أن جُبة الحكم كانت كبيرة عليه، رغم أنه كان مطلعا على خبايا المؤسسة العسكرية.
وحسب ما حكاه المسؤولون الموريتانيون، فإن رئيس الوزراء الموريتاني أحمد ولد بوسيف لعب دورا كبيرا في إنهاء التجربة القصيرة لأول رئيس انقلابي في موريتانيا، وأعاد تحكيم صوت العقل، إذ كان معروفا بقربه من المغرب وعدم اتفاقه مع انفصاليي البوليساريو الذين يعتبرهم أعقل السياسيين الموريتانيين مجرد مرتزقة يقودون منطقة الصحراء نحو المجهول.
بفضل هذا الوزير القوي، تمكن ولد لولي من الوصول إلى الحكم على أنقاض ولد السالك، لكنه لم يهنأ بالإقامة في القصر الرئاسي سوى سنة واحدة فقط. وبدا واضحا أن مسلسل عدم الاستقرار السياسي في موريتانيا سوف يطول أكثر من اللازم.
إذ عندما ألقت الثمانينيات بظلها على المنطقة، وكانت الحرب في الصحراء المغربية مستعرة ضد مرتزقة البوليساريو، كان التيار الموالي للجزائر داخل موريتانيا يبحث عن موضع قدم له، وهكذا مولت الجزائر محاولة انقلابية جديدة وصل على إثرها محمد ولد هيدالة إلى السلطة ما بين 1980 إلى حدود نهاية 1984. خلال هذه الفترة حاول المحيطون بالرئيس افتعال أزمات ضد المغرب، بينما كانت الجزائر تبحث عن باحة خلفية لتمويل الجزائر بعيدا عن تندوف التي كان الجيش المغربي يمنع قدوم أي تمويل منها إلى الانفصاليين ويؤخره.
أما كيف أزيح ولد هيدالة من السلطة، فقد كان مدعوا إلى مؤتمر بدعوة من الرئيس الفرنسي فرونسوا ميتيران، وما إن غادرت طائرته الرئاسية أجواء نواكشوط حتى تم ترتيب وصول معاوية ولد سيدي أحمد الطايع إلى السلطة.
هذا الأخير، الذي عُرف بتقارب كبير بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني كان صديقا لعدد من زعماء الدول العربية، وهو ما اعتبره الموريتانيون محاولة لإخراج البلاد من عزلة فرضتها عليها الانقلابات السابقة.
معاوية، يبقى أكثر الرؤساء الموريتانيين إقامة في البناية الرئاسية في العاصمة نواكشوط. إذ منذ 12 دجنبر 1984 وهو في السلطة إلى حدود سنة 2003، إذ عمر في الرئاسة عشرين سنة، وحد فيها الموريتانيين بشأن بناء علاقات متينة ووثيقة مع المغرب. إلى أن تم الانقلاب عليه هو الآخر وأطاح به العقيد صالح ولد حننا.
مسلسل الانقلابات بعدها بقي طويلا، وتكرر بعد عامين فقط، واستمر في إنتاج حلقات لا متناهية من رجع الصدمة التي هزت الساحة السياسية في موريتانيا.
ولد الطايع الذي انخرط في تجربة بناء الاتحاد المغاربي الذي قاده الملك الراحل الحسن الثاني، قاوم إغراءات العقيد القذافي الذي كان يريد صناعة جبهة ثلاثية مكونة من ليبيا والجزائر وموريتانيا ضد المغرب. وكان معروفا أن ولد الطايع كان يحتفظ بعلاقات ودية مع الملك الراحل الحسن الثاني، ودعم دائما الموقف المغربي لحل النزاع في الصحراء.
خطاب العرش الذي خاطب فيه محمد الخامس الموريتانيين
«..وإلى جانب قضية الجلاء، شغلت قضية أخرى جزءا كبيرا من نشاطنا ووقتنا، ألا وهي قضية الأراضي المغتصبة من بلدنا، وفي طليعتها موريتانيا العزيزة التي تتعرض الآن لمكيدة استعمارية خطيرة ترمي إلى فصلها عن المغرب وطنها الأصلي الذي عاشت منه وإليه طيلة تاريخها، والتي لا يريد أهلها عنه انفصالا.
وإن الذين دبروا تلك المكيدة ويشرفون على تنفيذها ليعرفون أكثر من سواهم أن موريتانيا لم تكن إلا جزءا من المغرب، وأن مغربيتها مؤيدة بالوثائق التاريخية والاتفاقيات الدولية التي خرقوها خرقا صريحا، كما يؤيد مغربيتها الحقيقة والواقع، وإرادة سكانها الذين يأبون إلى أن يشاركوا كباقي رعايانا في الاحتفال بهذا العيد الذي هو عيد الوحدة والاستقلال، ويعبر ممثلوهم الحقيقيون في منظمة الأمم المتحدة وفي كثير من الأقطار عن إرادتهم في أن يبقوا مغاربة كما كان آباؤهم الأولون، والذين يستميت أحرارهم في مناضلة الاستعمار في عين المكان، تشبثا بقوميتهم، ودفاعا عن الوحدة الترابية لوطنهم، ورفضا للانخراط في جامعة لا تربطهم بها رابطة دين ولا لغة ولا أصل ولا مصير.
وإننا في هذه المناسبة نعبر لأبنائنا في موريتانيا عن رضانا، ونبارك كفاحهم، ونحضهم عن الصبر والثبات في انتظار فرج الله الذي وعد الصابرين بالفتح القريب والنصر المبين، ونعدهم أن نبقى بجانبهم حتى يكلل الله جهادهم بالنصر، وتتحرر جميع أجزاء وطننا العزيز.
إن الاستقلال الممنوح لموريتانيا ما هو إلا استقلال مزيف يريد منه مانحوه اغتصاب جزء من وطننا، واستغلاله لصالحهم، وجعله حاجزا بيننا وبين إخواننا الأفارقة مع أنه كان على الدوام صلة وصلنا بهم، وإنشاء قواعد عسكرية فيه تهدد كيان المغرب العربي مثلما تهدد كيان الدول الإفريقية على السواء».
الكلام هنا للملك الراحل محمد الخامس الذي خاطب المغاربة والموريتانيين أيضا عبر أمواج الراديو في خطاب العرش سنة 1960، تناول فيه موضوع موريتانيا، وموضوع جلاء القوات الفرنسية من القواعد العسكرية وتسليمها للمغرب، ومواضيع أخرى مثل التمدرس ومحاربة الأمية والتحديات التي تنتظر المغرب بعد خمس سنوات على الاستقلال ومشاكل الأراضي التي لا تزال مستعمرة في الصحراء.
لكن الملك الراحل محمد الخامس أولى حيزا هاما لموضوع موريتانيا، وخاطب الموريتانيين. وهو ما خلف رد فعل كبير في الصحراء، خصوصا وأن قبائل الصحراء كانت تحج إلى الرباط بمئات الممثلين الذين كانوا يأتون لتجديد الولاء والبيعة للملك الراحل محمد الخامس، الذي كان وقتها قد أتم 33 سنة في الحكم، واعتاد أن يستقبل ممثلي الأقاليم الصحراء وموريتانيا منذ 1927، سنة اعتلائه العرش.
خطاب العرش الذي خاطب فيه الملك الراحل محمد الخامس الموريتانيين كان إحدى أقوى المحطات في تاريخ العلاقات المغربية الموريتانية، إذ بعد تأسيس الجمهورية كان الملك الراحل محمد الخامس سباقا إلى تدبير كل الاختلافات وقطع الطريق أمام المحاولات الأجنبية لتقسيم المنطقة.