شوف تشوف

الرأيالرئيسية

القرآن والفلسفة الوجودية.. مسرحية آدم وإبليس

صديقي جميل من ألمانيا وأبو الشامات من ريجينا في كندا، كلاهما لعن المجتمع الغربي في الانحرافات التي زعما رؤيتها هناك، وهي تذكرني برجل أصيب باحتقان فدخل بيتا جميلا، فلم يمكن همه الأول إلا دورة المياه. وهو من الناحية الفسيولوجية صحيح، ولكنه في الرؤية الاجتماعية كارثة، أي رؤية عورات المجتمع، ونحن فينا أماكن غير جميلة في أجسادنا وهي العورة مخبأة، ولكن المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ويمكن للإنسان أن يمشي في طريق أبيه آدم أو طريق إبليس، ولكن كيف؟ فالآية القرآنية تؤكد على مراجعة النفس للنجاة يوم القيامة (ولا أقسم بالنفس اللوامة) (2:75)، وفيها معنيان، الأول الممارسة العملية، والثاني تشكل الخلق والعادة في هذا الصدد، فهي أولا عملية مراجعة ومحاسبة ولوم للنفس لما حدث، ويقسم الله فيها، لأنها مستوى عظيم في وصول الإنسان إليه. وهي ثانيا لفظة تشديد (لوامة)، أي أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقا وعادة، وطبعا تطبعت عليه. بمعنى أن ممارسة النشاط أصبحت مرتبطة بشكل عضوي بهذه العملية، بمعنى أنها أصبحت من عمليات النفس اللاواعية فهي تقوم بدورها كعمل لاحق مرتبط بشكل عضوي بأي عمل إنساني واع، وهذا أمر هام، فهي ليست أمرا يستنفر له بين حين وآخر، بل هي عملية روتينية تشكل أسا من أجزاء العمل الرئيسية؛ فهذه الآية الصغيرة المكونة من ثلاث كلمات وضعت لنا القاعدة في المستوى الفردي «prinsip»، ثم يعطينا القرآن هذا المبدأ في الحياة في النشاط الجماعي، فلننظر مثلا في أصحاب الجنة.. (إنا بلونهم كما بلونا أصحاب الجنة) (17:68). إنهم قاموا بتصرف خاطئ وأرادوا حرمان المساكين، عوقبوا بإهلاك الثمرة (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم) (20،19:68). إنهم أمام اكتشاف ما حدث، وتفسير ما حدث.. إنهم فعلوا في الأول ككل ما يفعله البشر في البحث عن كبش فداء في صورة خارجية. فأولا تطمين خادع للنفس أنه لم يحصل شيء، كل ما حصل هو أننا ضللنا الطريق وهذا ليس بستاننا (فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قدرين، فلما رأوها قالوا إنا لضالون) (26-23:68). ولكن تبين بعد قليل أنها هي هي لم تتغير.. إذن التفسير الآخر الذي يقوم على تنزيه النفس بشكل غير مباشر.. إن الظلم وقع علينا وإننا مظلومون… بل نحن محرومون. هنا تدخل الرجل المعتدل العاقل (أوسطهم) ليرشدهم إلى جوهر المشكلة (ألم أقل لكم لولا تسبحون) (28:68). إن المشكلة عندكم في أنفسكم ليست في الخارج.. راجعوا أنفسكم، واكتشفوا الخطأ الذي حدث.. قوموا بعملية النقد الذاتي.. يبدو أن القوم كان فيهم بقية من عقل، ولم يرتكبوا حماقة جديدة بالبقاء على تصرفهم كما كان، فاعترفوا بأنهم كانوا «الظالمين» وليس «المظلومين المحرومين». فأقبلوا يقومون بعملية اللوم الجماعية للتنظيف الداخلي الجماعي، فكما أن عملية اللوم السابقة كانت فردية، فهي هنا جماعية (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) (30:68)، وهذا هو الموقف التحليلي الصحيح. إن موقف الاعتراف هو بداية حل المشكلة (إنا كنا ظالمين) (29:68)، (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين) (31:68). فالمشكلة بدأت من نفوسنا، ولم تبدأ من العالم الخارجي، إنه موقف طاهر حين تبدأ عملية مراجعة النفس، ونقدها، ولومها، ومحاسبتها، وتقويمها.

إن أول قصة تعرض في القرآن هي قصة آدم والشيطان، وإن بعض الأفكار الحيوية والتي ينبني عليها السلوك الصحيح تتدفق من سياق هذه القصة.

إن الفرق الحاسم الذي فتح طريق الخير للإنسان هو موقف آدم الصحيح من المشكلة التي حدثت، حين اعترف من خلال عملية النقد الذاتي، بل نطق هو وزوجته بلسان واحد (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (23:7). اعتراف بظلم النفس، فهذا انطلاق من العالم الداخلي، وليس بحثا عن كبش فداء، عن الظلم الواقع من الخارج عليه. إنه موقف كبير، وهو صحيح، وهو في الوقت نفسه تعبير عن نضج النفس الإنسانية. إن الذي فتح باب اللعنة على إبليس هو عدم الاعتراف بهذا الجانب، بل ذهب يتبجح فيقول: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (76:38). فآدم يقول بعد مراجعة نفسه: إنني ظلمت نفسي. والشيطان لا يراجع، فيقول: أنا خير منه. الأول استحق رحمة الله، والثاني حلت به اللعنة الأبدية. إن هذا الموقف الذي يمثل افتتاح مسرحية الوجود، يقابله في مسرح يوم القيامة الشيطان، وقد تعلم هذا الدرس تماما، فهو يعظ في الناس خطيبا يوم القيامة ليقول لهم: إن عليهم أن لا يلوموا الشيطان، بل يلوموا أنفسهم. (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) (22:14)، إن هذه القاعدة أبرزت نماذج بشرية قد تشبعت بهذه الروح.. فموسى يرتكب خطأ، فيقتل نفسا بغير حق فيقول: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) (16:28)، ويونس ذهب مغاضبا، فلما وقع في بطن الحوت ذهب ليقول: (سبحانك إني كنت من الظالمين) (87:21). إن اتجاه اللوم الأساسي يجب أن يكون الإنسان لنفسه، وليس للعالم الخارجي المحيط به، حتى الشيطان يجب أن لا يلام، كما جاء في خطبته الشهيرة يوم القيامة! وفي معركة أحد عندما انهزم المسلمون جاء القرآن ليقول لهم: إن سبب الهزيمة ليس الكفار، بل أنتم (أو لما أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير) (165:3). إنها فلسفة جديدة في فهم طبيعة المشاكل، حيث يرى الإنسان الأشياء كلها مقلوبة في هذا الضوء. في هذا الضوء الجديد يمكن فهم الأمور قد اختلفت أولياتها. فالحقوق تأتي ليس بالمطالبة، بل بالقيام بالواجب، والاستعمار ظاهرة امتصاصية لوجود القابلية لها، والحضارات تنتحر داخليا، والدول تنهزم بالتفكك الداخلي، والعضوية تمرض بضعف المقاومة أكثر من سطو الجرثوم، وسقوط الغصن بالنخر الداخلي أكثر من زوبعة الريح، وإسرائيل بتناقضات الوسط القومي أكثر من جبروتها وهكذا.. صدق الحديث القدسي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى