الفرق بين الجهاد والقتال
في 11 شتنبر، ضُرِبَ البرجان التوأمان لمركز التجارة العالمي في نيويورك، واعتبر البعض أن هذا جهادا في سبيل الله. وعندما كان رئيس حكومة عربية في زيارة إلى دولة إفريقية، جرت محاولة لاغتياله اعتبرها البعض أنها تصفية للطاغوت. وعندما اغتيل السادات هلل القوميون قبل الإسلاميين بأنه أفضل ما عمل، وأنه جهاد في سبيل الله. ولكن ما هو الجهاد في سبيل الله حقا؟
يظن البعض أن الجهاد هو استخدام القوة المسلحة ضد الحكومات، التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية! وهذا خطأ في اختزال الجهاد إلى قتال مسلح. وهو توظيف آلة في غير وظيفتها، ومفهوم مغلوط لمعنى الدولة والمجتمع. وهو وضع آلة خطيرة في يد غير مخولة؛ فليس الجهاد بيد فرد أو حزب أو تنظيم سري مسلح تحت الأرض، أو في جبال الجزائر، أو كهوف تورا بورا. وهو ارتكاب خطأ منهجي في التغيير الاجتماعي عن طريق القوة المسلحة. واستبدال «الإقناع» بـ«الإكراه». وهو من باب خفي «عبادة» للقوة وارتهان لها. والشباب الذين ركبوا ظهور الدبابات للإطاحة بالأنظمة، قتلوا رفاقهم قبل أعدائهم. وعندما قنص المغامرون العسكريون السلطة، ألغوا شريحة المفكرين. وعندما اختلف رفاق السلاح دفع المنتصر رفاقه إلى أقبية الاستخبارات، حتى تعفنت عظامهم، أو خرجوا لأولادهم على نقالات مصابين بالسرطان. واستبدلت الأمة صداعا بمغص والتهاب لوزات بمرض السل، ألا ساء ما يزرون.
وبذلك يخطئ من رأى الجهاد على هذه الصورة ثلاث مرات: في «الوظيفة» و«البنية» و«من يستخدم هذه الأداة؟ وضد من؟». وقديما قتل الخوارج الخليفة الراشدي الرابع، وتقربوا بدمه إلى الله. ثم دخلوا في صراع مسلح مع الدولة الأموية لفترة قرن من الزمان، واعتبروه سنام الجهاد، ونزفت الدولة الأموية حتى الموت في الصراع معهم. ولكن الأمور لم تزدد إلا خبالا. واستبدل يزيد والحجاج بالسفاح، وأبي مسلم الخراساني.
وإذا كانت الدولة الأموية قد أخرجت العادل عمر بن عبد العزيز، فإن العباسيين أنتجوا من الخلفاء من اتصل بالطاغية جنكيز خان يستعديه على ملك خوارزم المسلم، وكان مثله مثل من أدخل الدب إلى بستانه، أو الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة.
فأما الجهاد فهو يعني استفراغ الجهد في رحلة الاقتراب من الله، ولذا سمى القرآن العمل الفكري جهادا أكبر، «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ـ أي بالقرآن ـ». وبهذا نفك الإشكالية الأولى أن الجهاد لا يعني القتال؛ بل هو مفهوم أوسع.
وأما القتال في سبيل الله فهو وظيفة دولة راشدة وصلت إلى الحكم برضى الناس، وآلة تستخدم ضد «الظلم» وليس «الكفر». كما وردت الآية من سورة الحج «أذن للذين يقاتلون أنهم (ظلموا) وإن الله على نصرهم لقدير». وهذا تفريق جوهري فاستخدام القوة المسلحة لنشر الإسلام هو إسلام ضد الإسلام. وهذا يعني بكلمة أخرى أن آلة القتال المسلح هي ضد (الظلم) الإنساني أيا كان، ولو كان من المسلمين. فستخدم الآلة المسلحة لكبح الظلم وإزالته من الأرض، بالتعاون مع أي قوة أخرى إسلامية وغير إسلامية على شكل دعوة إلى تحالف عالمي لتحرير الإنسان. ومنه نفهم استعداد الرسول (ص) للدخول في حلف الفضول الذي كان ساريا في عهد الجاهلية، فقال: لو دعيت إليه لأجبت.
وهذا الكلام يوصلنا إلى ثلاث حقائق جوهرية:
ـ (الأولى) إن تغيير الإنسان والمجتمع يتم بطرق سلمية، وليس بالسيف أو الانقلاب المسلح، كما جرى في التاريخ الإسلامي وما زال. والسبب أن الدماغ لا يعمل بالقوة. قد يستطيع إنسان ضرب مسمار بالحائط بمطرقة، ولكن المادة العصبية لا تتأثر إلا بعمل إلكتروني من السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا.
ـ (الثانية) إن «القتال»، أو استخدام القوة المسلحة، محصور في «الدولة» وليس الأفراد، أو التنظيمات السرية، بسبب طبيعة الدولة، فهذه المؤسسة بناها البشر مع بزوغ الحضارة، قبل ستة آلاف سنة، بديلا عن فوضى الغابة. وأهم مزاياها أنها تحتكر العنف من الأفراد، مقابل توفير الأمن لهم داخلها. ونحن بواسطة الأمن الاجتماعي نأكل ونتزوج ونسافر ونبني الجامعات، ولكن وضع العنف في قناة عادلة بيد أناس لا تستهويهم القوة ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، هو الذي يميز الاستخدام الصحيح من السيئ، فيسمى قتالا في سبيل الله أو لحساب الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا.
– والحقيقة (الثالثة) أن القتال المسلح مسخر ليس لنشر الإسلام في الأرض، بل لرفع الظلم عن الإنسان مهما دان، فيستخدم ضد المسلم الظالم ولو حج كل عام، وبالتعاون مع كافر عادل، ولو لم يستقبل القبلة في حياته. ومن خلال هذا التلخيص الموجز لفكرة الجهاد، نقول إن أكثر منطقة في العالم يضطهد فيها الإنسان ويجب تحريره فيها من الطواغيت، هي العالم العربي. ولكن السؤال من سيجاهد الآن ضد المسلمين الظالمين؟
بقلم: خالص جلبي