الفرار من ديار البعث إلى يوم البعث
في 13 يناير 1975، فررت من ديار البعث إلى يوم البعث. كان ذلك بعد سجني مثنى وثلاث ورباع. في طريق الفرار قررت الخرج برا من الحدود اللبنانية ولم يكن حزب البيدق الإيراني شيئا مذكورا. سجدت لله شاكرا في أرض الفرار، نمت في فندق حرص على توديعي بمطربة الشرق أم كلثوم. كان الصوت صادحا حتى غرفتي وقرع القباقيب الشامية تضرب رأسي. حتى حامل الأمتعة كان سلابا نهابا، هذا هو الشرق الغابة. حين دخلت مطار نورمبيرج ارتعت من الصف الطويل أمام كاونتر ضابط الجوازات، تذكرت سوريا وتكوم الناس والضابط يلقي الجواز من فوق روؤس العبيد المرتجفين مع شتيمة. كانت الصدمة الأولى لي من بلاد التيوتون النظام وعشقهم للنظام. في دقائق معدودة كانت جوازاتنا مختمة.. قلت هذه الأولى. السكون والهدوء والنظافة والجمال يطوق المشهد. قلت في نفسي أنا في كوكب آخر علي تسجيل ملاحظاتي. هذه الملاحظات نفسها رواها لي صديقي جميل الذي فر مع عائلته إلى ألمانيا. قال: شدني منظر في طريق الغابة لطفلة تبكي مع رجل يترنح فحضرت الشرطة في دقائق لتعرف سر بكاء الطفلة؟ قلت له: فلسفة الحياة في ألمانيا أن الإنسان هو ملك المجتمع وليس أبويه. إن أحسنا تربيته بقي في رعايتهما وإن أساء مد المجتمع يده ليسحب الطفل ويحميه ممن لا يقدر الحياة والإنسان. ابنتي بشرى التي ولدت في ألمانيا جاءني عن طريق البريد أول شيك لها بمبلغ خمسة ماركات مع خطاب موجه لها، وهي التي لم تنطق بعد في المهد صبية: أهلا بك أيها الزائر الأرضي، خذي هذا المبلغ ليكون المشروع المستقبلي لك من خلال والديك.
في مدينة سيلب (Selb 8672) لاحظ أن كل مدينة برقم كبيرة برقم بسيط هانوفر 3 والصغيرة برقم كبير كما كان في مدينتي المرمية على حدود تشيكوسلوفاكيا السابقة. كنت أتدرب على قراءة الجرائد المحلية (لاحظ كل مدينة مهما كانت صغيرة لها جريدتها الخاصة للأخبار والإعلانات).. قرأت متدربا على اللغة الألمانية عن رجل سوري (هي قصص السوريين منذ ذلك الوقت). أعيتني كلمة (waghalsige) كلمة (wag) مشتقة من أصل الفعل الذي يعني الجرأة (wagen) بالمناسبة أيضا هذه الكلمة تعني اسما السيارة وليس الفعل، فهو يعني الجرأة وهذه من رشاقة الألفاظ. أما الكلمة الثانية (hals) فتعني الرقبة؟ كيف تفهم الكلمة إذن؟ حين سألت المرضى ممن حولي من الألمان وكنت أستفيد من الوقت في تعلم اللغة من أفواههم. فسروا لي العمل الجريء حقا ذلك الذي غامر به السوري بين ألمانيا الشرقية والغربية. السوري أراد الزواج من ألمانية ولكن تحت الاحتلال الروسي كما هو الحاصل حاليا في سوريا الأسد. قالت له مهري الهريبة من جحيم النظام الشمولي وابنتي معي؟ فكر السوري وقدر ثم اختط لنفسه خطة فيها القدر الكبير من المغامرة والمسؤولية. أنا شخصيا عبرت الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية. ومرة تهت الطريق فأصبحت عند الرفاق، فكلفني الكثير وتحتاج إلى قصة لوحدها كما هو الحال في الملحمة التي يخوضها السوريون الفارون من جحيم الأسد والروس والإيرانيين. برلين هي نقطة الخلاص. بعد الاحتلال الرباعي لبرلين وهي مدينة في أرض محتلة من الروس اسمها ألمانيا الشرقية كما في سوريا المنكوبة المنكودة هذه الأيام. كمية السيارات التي تعبر خلال هذه الحبل السري المتهادي في أرض ألمانيا الشرقية شيء هائل. كان الضابط الشيوعي يتفحص الوجوه جيدا وهو يكرر سؤالا يتيما: هل تحمل ذخائر؟ هل تحمل أسلحة؟ وضع السوري حبيبته وابنتها في الحقيبة الخلفية للسيارة حيث توضع الحقائب؟ وعبر بهم الحدود بهدوء ونجا. لكن هذه المحاولة وإعلان الجرائد عنها لهذا السوري دفعت السلطات الشمولية في ألمانيا الشرقية لوضع رادارات ومجسات للحرارة لمعرفة وجود اللحم الحي في الأمكنة المغلقة الخلفية، وهو مالم تفعله سلطات النمسا في الشاحنة التي هلك فيها 71 إنسانا سوريا فيهم أطفال رضع وشيوخ ركع. هنا حفظت كلمة جري العنق فلم أنسها. كانت الجرائد الألمانية تذكر الطرق العجيبة في الهرب من النظام الشيوعي من أرض يحكمها طاغية اسمه هونيكر (كانت نهايته وخيمة في الحبس) كما سيكون مع البراميلي ولو سنده النظام المافيوي الروسي المتخشب.
من ذكرياتي في ألمانيا، هرب الشرقيون بكل سبيل لايخطر في بال الجن الأزرق. حفروا أنفاقا كالأرانب وطاروا بمناطيد صنعوها بأيديهم، الكثير منهم قتلوا وهم يفرون إلى أرض الحرية كما يفعل السوريون الأبطال اليوم، فمنهم من يقتل في أرض الثورة، منهم من يموت غرقا فينقذه اليم بالساحل ليس مثل موسى بل اسمه إيلان، مما دفع الكثير من الممثلين المغاربة إلى الانبطاح على الشواطئ يحيون الميتة الشريفة.
كان من أعجب القصص التي سمعت شاب من أدلب عبر البحر سباحة في بحر إيجة بين تركيا واليونان، مالم يفعله أخيليس اليوناني وهيكتور الطروادي. ورجل ارتحل في الجو 39 مرة، وفي كل مرة يصده ضباط وموظفو المطار عن الولوج حتى حفظوه وملوا منه فسمحوا له بالسفر في المرة 39؟
أما أخو صهري فملحمة قائمة بذاتها، والشاب من قطنا قرب دمشق، حيث عبر حدود 14 دولة، قبل الوصول إلى السويد، وفي دول كثيرة رد على وجهه؛ فلم تثن عزمه عن متابعة رحلة الدياسبورا للوصول إلى أرض الحريات وحقوق البشر الآدميين بعد أن مسخوا في جملوكية الأسد إلى عبيد وقردة وخنازير.