«في قمة الغليان السياسي، خصوصا خلال بداية الثمانينات، كان بعض مدراء دواوين الوزراء يسهرون على تنظيم لقاءات يحضرها صحافيون، لم يكونوا جميعا يتمتعون برضى «الجهات العليا». وهكذا كان الوزراء، أو مدراء دواوينهم، يتمادون أحيانا في عتاب هؤلاء الصحافيين وأحيانا أخرى يعاقبونهم بحرمانهم من أخذ تصريحات الوزير.
حدث مرة في عز أزمة مظاهرات سنة 1981، أن عقد الوزير إدريس البصري لقاء حشد له صحافيين، وتولى بنفسه تسيير اللقاء رغم وجود موظفين بالديوان مكلفين بالموضوع. وبدا غاضبا وهو يستقبل الصحافيين الذين لم يتجاوز عددهم عشرة أفراد فقط. ليخطب فيهم أنه جمعهم لأنه لا يريد أن يقرأ في الصحافة ما يزعجه، مؤكدا أن بعض الصحافيين يجب أن يُمنعوا من الكتابة.
هذه لمحة فقط من بعض ما جرى داخل الأقبية السرية لدواوين الوزراء المغاربة».
حروب المناصب السامية.. قرون دامية من الصراع
لعل أكثر الحروب الوزارية ضراوة، تلك التي اندلعت في قلب القصر الملكي وانتقلت نيرانها لتدمر عائلات بعض الوزراء أيام المولى الحسن الأول، وقبيل وفاته أيضا. حرب بدأت سنة 1866 وانتهت سنة 1894 تقريبا، وبدأت بعدها حروب أخرى بين وزراء آخرين، لكنها لم تكن بحجم ضراوة الحرب التي أوصلت الحاجب الملكي باحماد إلى منصب الصدر الأعظم وشردت عائلة الجامعي التي كانت تتكون من وزراء في الدولة، عينوا أفراد عائلتهم وحلفاءهم موظفين صغارا وكبارا داخل الدواوين.
جاء في «المغرب المنقرض» ما يلي. »بعد أيام من وفود الموكب السلطاني على مكناس، انعقد مجلس الصباح الاعتيادي (للوزراء). ولج الحاج المعطي، الصدر الأعظم، ساحة القصر، محاطا بحاشيته ذات اللباس الأبيض، ولج بينما الخدم ينحنون له والجنود يؤدون له التحية. وعلى التو، أُذِن له بمقابلة السلطان.
حين دخل الحاج المعطي، وجد مولاي عبد العزيز بمعية ابا حماد بمفرده، انحنى وانتظر أن يعطيه السلطان الكلمة. طرح عليه مولاي عبد العزيز سؤالا بنبرة ملؤها الجفاء. لم يعتبر جواب الحاج المعطي مقنعا، فانطلق ابا حماد في إطلاق سيل من الانتقادات ضد الصدر الأعظم، متهما إياه بالخيانة والبخل والابتزاز واقتراف جرائم سياسية.
وفجأة، توسل للسلطان أن يأمر باعتقاله. فطأطأ مولاي عبد العزيز رأسه في إشارة إلى موافقته على طلب حاجبه».
هكذا كانت الأجواء في مكناس، وبدل أن يذهب ابا حماد إلى حتفه بفاس، قام بجر المعطي الجامعي، الصدر الأعظم الذي ورث المنصب عن أخيه محمد بن العربي الجامعي إلى مكناس، حيث يوجد أنصار ابا حماد، وأقنع المولى عبد العزيز بوضع حد لنفوذ آل الجامعي.
وفي مقطع آخر، جاءت حقيقة أكثر مرارة: « حالة الحاج المعطي الجامعي بعد تلك اللحظات التي مثل فيها أمام السلطان الجديد. فما إن خرج من عند السلطان الذي أصدر أوامره بعزله: »حتى كان رجل يمرغ في تراب ساحة القصر، رجل مثير للشفقة تغمر عينيه الدموع، رجل تسخر منه وتستهزئ به الجموع التي كانت، قبل هنيهة، تنحني لتحيته حتى تطأ جباهها الأرض. كانت ثيابه ممزقة بسبب غلظة الجنود وعمامته قد انزاحت عن مكانها الطبيعي، وحين اجتاز باب القصر السري مجرورا من طرف العساكر، نزع الحارس رزته البيضاء الرائعة، وضعها الحارس فوق رأسه، وعلى رأس الصدر الأعظم وضع شاشيته المتسخة، فحيَّت قهقهة مدوية فعلته(..) اقتيد الوزيران السابقان (الحاج المعطي ومحمد الصغير) إلى السجن بتطوان، وهناك كانت السلاسل مصيرهما فَغُلاَّ في ضيافة برج الاعتقال. وبعد مرور ثلاث سنوات، وهي مدة بدت للحاج المعطي وكأنها الأبد، توفي هذا الأخير. لم يجرؤ عامل تطوان على دفن الجثة، إذ انتابه الهلع من فرضية اتهامه بمساعدة السجين على الفرار، لم يجد بديلا عن مكاتبة البلاط كي يتم تزويده بتعليمات. كان الوقت صيفا والحرارة مفرطة في حصن الاعتقال، لم يكن بالإمكان التوصل بالجواب قبل مرور 11 يوما، وطوال هذه المدة، ظل سي محمد الصغير مغلولا جنب جثة أخيه».
هناك أيضا مرجع محلي هذه المرة يتطرق لهذه الحرب الدامية. يقول بوشتى بوعسرية في كتاب معلمة المغرب: »فحينما دخل الصدر الأعظم (يقصد المعطي الجامعي) على السلطان (المولى عبد العزيز) في قصره بمكناس يحمل معه صكوك الأوامر والظهائر السلطانية، كما جرت العادة، للتوقيع عليها، أمره بتقديمها إلى ابا حماد ابن موسى، فامتنع عن القيام بهذه المهمة التي اعتبرها إهانة له، فلم يسع السلطان إلا إعطاء تعليماته، بإيعاز من حاجبه، لقائد المشور إدريس بن العلام البخاري، ليبلغ الصدر الأعظم السابق إعفاءه من وظيفه ولزوم داره».
أسرار من قلب مكاتب الوزراء
كان بعض المرشحين للاشتغال في دواوين الوزراء أيام الملك الراحل الحسن الثاني يتبارون في تقديم الهدايا لبعض الشخصيات السامية حتى يتم اقتراحهم على رأس الدواوين. ونورد هنا مثالا رواه المهندس الفرنسي الذي كان الملك الراحل الحسن الثاني أوكل إليه إصلاح بعض قصور العائلة الملكية. إذ كان حاضرا في إحدى المناسبات بالقصر الملكي في الدار البيضاء، وكان الملك الراحل الحسن الثاني يستقبل بعض الوزراء والشخصيات المعروفة، وكان هناك أيضا مدعوون فرنسيون، لكن فوجئ الحضور بحركة غير عادية في صفوف بعض المدعوين المغاربة، والسبب أن بعضهم علموا للتو، حسب ما حُكي للضيوف الفرنسيين، بأن الملك الراحل الحسن الثاني وبخ شخصيات سامية بسبب خطأ في البروتوكول المتبع أثناء استقبال الضيوف الأجانب، لأن أحدهم لم يتعرف على بعض ضيوف الملك الأجانب وعامله بجفاء وتركه ينتظر في الخارج لمدة طويلة رغم قساوة برد الشتاء.
بعد مرور الحفل، صارحه أحد الوزراء، لم يكشف عن اسمه في الحوار، وقال له إن الملك الراحل أجرى بعد ذلك الحادث تعديلات في صفوف المكلفين بديوان وزارة التشريفات والأوسمة التي كان على رأسها الوزير عبد الحفيظ العلوي المقرب من الملك.
حتى أن بعض الأعيان والمتقاعدين السياسيين اشتكوا للملك الراحل في بعض المناسبات من أنهم لا يتوصلون دائما بدعوات الحضور إلى القصر الملكي في المناسبات الرسمية، رغم أن التشريفات والأوسمة أكدت لهم في مناسبات كثيرة أن أسماءهم كانت مكتوبة في لائحة المدعويين.
السبب وراء هذا التغييب كان راجعا بالأساس إلى الحروب التي كانت تدور رحاها بين موظفي الدواوين أيام الملك الراحل الحسن الثاني بحثا عن النفوذ والتحالفات وإبعاد الخصوم من دائرة الضوء حتى لا تشملهم القرارات المقبلة للتعيينات.
إنها حرب إذن عمرت قرونا داخل دواليب الوزارات ومكاتب موظفي الوزراء الذين كان بعضهم يساهم في القرار الوزاري، بل ويضفي هالة على شخصية الوزير ويزيد من هيبته، أو يكون سببا في إقالته.
مضى زمن إذن كان فيه مكتب مدير ديوان الوزير، عالما خاصا وسدا يحول بين طالبي النفوذ وبين «رهبة» الوزارة.
عندما كان الوزراء المغاربة يُعدمون «خُدّامهم»
لم يكن لمنصب مدير الديوان وجود عندما كانت «الإيالة الشريفة» تعيش على إيقاع أيام السيبة وما قبلها. لكن رغم ذلك، فقد كان «الكتبة» الذين يكسبون قوت يومهم من كتابة الرسائل بل وحتى قراءتها للوزراء وصياغة الرد المناسب عليها، كانوا يمثلون سلطة الظل. وهذا بطبيعة الحال قاد في مرات كثيرة بعضهم إلى ارتكاب «حوادث شغل». إلا أن هذه الحوادث تؤدي في هذه الحالة إلى الاختفاء وتوديع حياة الوزارات والدواوين.. وقد تؤدي أيضا إلى الموت كما حدث بعد وفاة المولى الحسن الأول عندما انقلب اباحماد الذي كان يتربع على عرش الصدارة، في قلب الوزارات السيادية وأطاح بأسماء وزراء ومشرفين على دواوينهم، وسجن آخرين، بينما كان الموت ينتظر الذين لم يكونوا محظوظين، وكانت لهم حسابات مع الوزير.
عموما. وقبل وفاة المولى الحسن الأول بفترة، وبالضبط سنة 1873، وقعت قصة نقلتها مغامرة بريطانية، اسمها آميليا، تصادف وجودها في المغرب مع فضيحة أدت إلى مقتل موظفين في ديوان الصدر الأعظم، كلاهما ينحدران من جامعة القرويين لأبوين عالمين هناك. كتبت في «شتاء في المغرب» تقول: «هناك واقعة جديرة بالذكر. كانت هناك مهمة اقترحها بعض رجال الدين المسيحيين، الهدف منها هو إقناع المغاربة باعتناق المسيحية. وكان هناك قس صغير، بروتستانت، متحمس لهذا الأمر، هو الذي تم تكليفه بهذه المهمة. ولم يكن يتحدث العربية، فاختار أن يوظف مترجما مغربيا كمساعد له يعتنق الديانة اليهودية.
أخبر المترجم اليهودي مُشغّله النصراني، أنّ الشائع في المغرب في كل المناسبات والتجمعات أن يتم تقديم المشروبات للزائرين والمتجمهرين في نهاية كل تجمهر، ويتم تقديم القهوة أو الشاي، لكل الحاضرين للاجتماع. وهذا الأمر سيكون، في البداية، سياسة جيدة، على عكس ما هو متعارف عليه في السابق.
كان القس يطمح إلى التأثير إيجابيا على المتنصرين المحتملين ويقنعهم بنفسه. وهكذا تم إرسال طلب للحصول على كميات من كؤوس القهوة من أقرب محل في أول تجمع.
وهكذا بدأت مراسيم الخطبة».
تقول آميليا إن اليهودي كان يترجم ما يقوله القس ويضفي عليه قالبا حكائيا، جعل الناس يتابعونه باهتمام، حتى أنها قالت إن الأمر يستحق أن يُجمع في رواية، نظرا للتشويق الذي كان يحكي به اليهودي ما كان يرويه له القس. كان يحرص على أن يوصل للجمهور، والذين كانوا يستمتعون بالقهوة المجانية بدون شك، أبرز تعاليم الدين المسيحي من خلال القصص التي كان يرويها لهم. «ربما كان يضفي بعض الزخرفة على خطابه. ترجمة «ابن نوني» تستحق أن تُحكى، لذلك تستحق فعلا أن تُجمع في كتاب أو رواية».
كان ابن نوني، يتحدث إلى الناس بنبرة الرجل الثري، وقد كان كذلك فعلا، بحكم أنه ينحدر من أسرة ثرية تمارس التجارة. لذلك كان يقول للناس، حسب ما أوردته آميليا: «هذا رجل إنجليزي جاء خصيصا ليتحدث إليكم. استمعوا له، وعندما ينتهي من كلامه، سوف يقدم لكم القهوة».
لكنه في أحايين أخرى، ربما عندما يفقد صبره، يخبر الناس وهو يحدثهم عن شخصية القس النصراني: «إنه رجل غاضب. كل ما يقوله بلا معنى. لكنه عندما ينتهي، سوف يقدم لكم القهوة». أو: «لا تخافوا. ليس هناك أي ضرر في ما يقوله. وعندما ينهي كلامه، سوف تستمتعون جميعا بشرب القهوة».
أمثلة كثيرة، تتغير ربما بالمزاج، وربما يُفترض أن آميليا سمعتها ممن أسمتهم مصادرها الموثوقة بخصوص قيام اليهودي الثري بترجمة كلام القس اليهودي الذي حاول دعوة سكان طنجة إلى اعتناق المسيحية خلال القرن 19: «إنه ليس ساحرا. إنه فقط رجل إنجليزي فقير ومجنون. ما يقوله لن يؤذي أحدا. وقد طلب لكم كمية كبيرة من القهوة».
من الطريف التنبؤ برد فعل المغاربة أثناء سماعهم لكلام القس النصراني، وترجمة الثري اليهودي لكلامه. والواضح أنهم فقدوا صبرهم في مرات كثيرة، لأن أغلب المتجمهرين كانوا يركزون على نهاية الحديث وليس مضمونه، ليكون بوسعهم شرب قهوة مجانية، وإنهاء التجمهر. وهاهو المترجم اليهودي يصيح فيهم: «تحلوا بالصبر. سينتهي من كلامه قريبا. إنه يحس بالتعب. وعند ذلك سوف يشرب كل واحد منكم الكمية التي يقدر عليها من القهوة».
بعد هذه الواقعة بأسبوعين، حسب نفس المصدر، تم إفشال المحاولة لكن الوزير القوي اباحماد، وكان وقتها لا يزال حاجبا، لكنه بصلاحيات واسعة، قد همس في أذن نافذين بالقصر الملكي مؤكدا أن كاتبي الوزير الأول كانا على علم بما قام به القس من حملات للتبشير، وحاولا أن يبتزاه بالمال مقابل السماح له بالتحرك دون أن يعتقله أحد من المخازنية. وهكذا سرت الفضيحة في أرجاء القصر ووصلت إلى كل الوزراء، وتمت لملمة الواقعة بإنزال العقاب على الكاتبين اللذين اشتغلا في دواوين عدد من وزراء الدولة، وانتهت بوفاتهما بعد أن عوقبا في ساحة عامة بمدينة فاس، خلال نفس السنة. وتقول الإشاعات حسب «شتاء في المغرب» إن بعض الوزراء كلفوا مرتزقة لكي يُجهزوا على الموظفين أثناء تأديبهما على يد الطلبة.
مدير ديوان الوزير الأول سنة 1958.. قال «لا» للحسن الثاني
اسمه ناصر بالعربي. رغم أنه كان في مقدمة الشبان المغاربة الذين تحمسوا للعمل السياسي، فإن اقترابه الكبير من عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد لم يجر عليه إلا المشاكل. فقد كانت تصله أخبار عن توجس بعض المقربين من المحيط الملكي من اسمه، بل وتحفظ محيط ولي العهد، خصوصا اكديرة (كان أيضا مديرا لديوان ولي العهد) ومولاي أحمد العلوي، على اعتماده مديرا لديوان الوزير الأول عبد الله إبراهيم.
فقد كان من مهام مدير الديوان أن يشرف على جدول مواعيد الوزير الأول، حيث كان مكتبه بوابة للقاء الملك الراحل محمد الخامس. وكان وقتها الاستقلاليون وأعضاء الحركة الوطنية «المتنطعين» يرغبون في رفع تظلماتهم للملك بعد الاستقلال، وكان كل شيء يمر بين يدي ناصر، مدير ديوان الوزارة الأولى.
عندما أعفيت حكومة عبد الله إبراهيم، أو لنقل، أقيلت، في ربيع سنة 1959، كان ناصر بالعربي متوترا للغاية. وحسب ما رواه عبد الله إبراهيم بنفسه في حواراته النادرة بخصوص عمله في مكتبه أثناء تجربته الحكومية، فإن ناصر بالعربي كان هو عصب الوزارة الأولى ومدبر الملفات التي كان الوزير الأول يناقشها مع الملك الراحل محمد الخامس. وعندما أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم، حسب ما رواه بنفسه في إحدى حواراته النادرة قبيل وفاته، أكد أن الملك الحسن الثاني وكان وقتها وليا للعهد، زاره في قلب مكتبه فور إقالته ليسهر على عملية انتقال الملفات من مكتب الوزارة إلى ديوان ولي العهد، ولم يفت الملك أن يعرض على مدير ديوان الوزير الأول أن يلتحق به، لتسهيل الاشتغال على الملفات التي كانت في مكتب الوزير، لكن مدير الديوان لم يقبل العرض وقرر ألا يشتغل بعد انتهاء تجربته مع عبد الله إبراهيم في المنصب، وهو ما كان يُحسب وقتها موقفا في غاية الشجاعة.
كانت شخصية ناصر مثيرة للتساؤلات، حتى أننا عندما أثرنا اسمه في «الأخبار» قبل سنة ونصف، كانت الاتصالات لا تتوقف، في محاولات من بعض الذين لا زالوا يتذكرون اسمه لـ»تصحيح» بعض المعطيات، فقد كان هناك اختلاف كبير بخصوص صلاحياته وعلاقته مع عبد الرحيم بوعبيد الذي كان عمليا، بشكل أو بآخر، نائبا لعبد الله إبراهيم.
روى ناصر بلعربي نفسه، أن الملك الحسن الثاني، عندما كان وليا للعهد عرض عليه أن يكون مشرفا لديوان رئاسة الحكومة، لكنه اعتذر وفضّل أن يغادر مع عبد الله إبراهيم بعد إعفائه، وهو الأمر الذي أغضب كثيرا رضا اكديرة الذي كان حاضرا في تلك اللحظة بصفته مشرفا على ديوان ولي العهد.
في منصبه داخل مكتب عبد الله إبراهيم، كان ناصر بلعربي مطلعا على مجريات ملف الصحراء، وملف تسليم الإدارات من الفرنسيين للمغاربة، بالإضافة إلى ملف حارق آخر، كان عبد الله إبراهيم يوليه اهتماما كبيرا، وهو القواعد الأمريكية التي كانت نشيطة بالمغرب. اطلاع بلعربي على هذا النوع من الملفات، جعل مغادرته مناصب المسؤولية مستبعدا، وهكذا فقد بقي في عالم السلطة حتى بعد إعفاء مديره عبد الله إبراهيم، ورغم اعتذاره عن منصب الإشراف على ديوان رئاسة حكومة ولي العهد سنة 1960.
أثير اسم بلعربي في فضيحة الوزراء والمسؤولين والمدراء المرتشين الذين عوقبوا بالسجن بداية السبعينات، قبل أن يعفي عنهم الملك الحسن الثاني في وقت لاحق.
تحطمت حياة ناصر بلعربي بعد أزمة السجن، خصوصا أن الكثيرين من محيطي الملك الحسن الثاني أكدوا له أن الرجل كان بعيدا تماما عن عالم الاختلاسات، وأن ذمته المالية كانت أنظف من ذمم أغلب الذين اعتُقلوا وقتها، وهكذا فقد عاد إلى الحياة بعد العفو، وأوكل إليه منصب إداري في إحدى الشركات، ليقضي حياته بعيدا عن الأضواء إلى أن أحيل على التقاعد.
كان يمازحه بعض أصدقاء عبد الله إبراهيم، بمعاتبته على انشغاله عن أصوله الوجدية، إذ كانت زياراته للمغرب الشرقي قليلة بسبب انشغالات الإدارة. وبعد التقاعد، وجدها فرصة مناسبة للعودة إلى الأصل بعد مروره بأزمات سياسية عاصفة، أقواها تلك التي عاشها وهو يشرف على ديوان أكثر رؤساء الحكومات المغربية إثارة للجدل، خصوصا وأن كلاما كثيرا أحاط بحدث إعفاء عبد الله إبراهيم من منصبه.
عاش ناصر بلعربي وفاة رئيسه عبد الله إبراهيم، ولا شك أنه استعاد بكثير من الحنين قصص رحلاتهما معا، في المهام التي كان الملك الراحل يكلف بها عبد الله إبراهيم، حتى أن محمد الخامس عاتب ناصر بلعربي مرة على عدم بقائه في ديوان رئاسة الوزراء، بعد انتهاء تجربة حكومة 1958، وخفض بلعربي بصره، ليفهم الملك الراحل محمد الخامس أن ما كان يجمع عبد الله إبراهيم بناصر بلعربي كان أقوى من رئاسة الديوان.
الحرب الخفية للتعيينات.. وموظفون لجؤوا إلى «الشوافات»
خلال نهاية السبعينات، اشتهرت في صالونات الرباط المخملية قصة سيدة تنحدر من فاس كانت تدعي أنها تشتغل لدى مقربين من واحدة من الأميرات، وكانت تستعمل الهاتف كسلاح لإيهام ضحاياها من أثرياء الدار البيضاء والرباط، حتى أنهم اقتنعوا فعلا أنها تتمتع بعلاقات وطيدة وأصبح يلجأ إليها قضاة وموظفون كبار في الإدارات العمومية لكي تتوسط لهم لدى «معارفها». وكانت بطبيعة الحال تطلب مقابلا ماديا عن تلك الخدمات.
افتضح أمرها عندما كان الملك الراحل الحسن الثاني في رحلة إلى فرنسا، وكان يطالع الصحف الفرنسية ليفاجأ بمقال يتحدث عن قضية طبيب مقيم في فرنسا لجأ إلى محامين فرنسيين لكي يجعلوا قضيته قضية رأي عام في فرنسا بسبب فشله في تنفيذ حكم قضائي لصالحه في المغرب بسبب نفوذ سيدة مغربية جمدت ملفه في القضاء.
أعطى الملك الراحل الحسن الثاني الأمر فورا لمعرفة تفاصيل القضية ومدى مصداقية ما جاء في المقال، ليكتشف فعلا أن الأمر يتعلق بسيدة «ن.ش» يخافها بعض القضاء لأنها تدعي وجود صداقة بينها وبين إحدى الأميرات. لكن حاشية الملك الراحل أكدوا له أن السيدة لا تربطها أية علاقة بأي أفراد في القصر ولم يتعرف أحد عليها. وبعد التدخل الملكي لتنفيذ الحكم القضائي سرى الخبر بأن السيدة كانت تنصب على ضحاياها، خصوصا وأن كل معارفها في الإدارات انفضوا حولها بعد تأكد عدم وجود أي نفوذ لديها باستثناء المسؤولين الكبار الذين تقربوا منها ثم انفضوا عنها بعد معرفتهم الحقيقة.
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أمر مستشاره محمد عواد بتتبع موضوع السيدة، واكتشف المستشار، رفقة رضا اكديرة أيضا، أن المعنية بالأمر وصلت حد زيارة بعض موظفي دواوين الوزراء الذين وعدوها بترتيب مواعيد لها لكي تلتقي بعض وزراء الدولة وتطلب مساعدتهم في بعض الملفات، والمقابل كان أن تعرفهم على بعض «الشوافات» لكي يتعزز وجودهم داخل الوزارات وربما لكي يستفيدوا من الترقية.
كانت قصة هذه السيدة التي نُسجت حولها الحكايات ثم نُسيت وكأنها لم تكن، جانبا فقط من الحقائق المثيرة والغامضة لما كان عالم الوزارات يعرفه من دسائس ومكر، في حرب مفتوحة كان كل شيء فيها مباحا.
هكذا كان «الديوان» يضيق على حريات الصحافيين خلال سنوات الرصاص
كان بعض مدراء الدواوين، قد اشتغلوا سابقا في الصحافة الحزبية، وتم إلحاقهم بمكاتب الوزراء خصوصا من أحزابهم، في سنوات متفرقة بين سنوات السبعينات وصولا إلى تجربة التناوب خلال نهاية التسعينات.
لكن في قمة الغليان السياسي، خصوصا خلال بداية الثمانينات، كان بعض مدراء دواوين الوزراء يسهرون على تنظيم لقاءات يحضرها صحافيون، لم يكونوا جميعا يتمتعون برضى «الجهات العليا». وهكذا كان الوزراء، أو مدراء دواوينهم، يتمادون أحيانا في عتاب هؤلاء الصحافيين وأحيانا أخرى يعاقبونهم بحرمانهم من أخذ تصريحات الوزير.
حدث مرة في عز أزمة مظاهرات سنة 1981، أن عقد الوزير إدريس البصري لقاء حشد له صحافيين، وتولى بنفسه تسيير اللقاء رغم وجود موظفين بالديوان مكلفين بالموضوع. وبدا غاضبا وهو يستقبل الصحافيين الذين لم يتجاوز عددهم عشر أفراد فقط. ليخطب فيهم أنه جمعهم لأنه لا يريد أن يقرأ في الصحافة ما يزعجه، مؤكدا أن بعض الصحافيين يجب أن يُمنعوا من الكتابة. رُجح وقتها أن يكون يقصد بكلامه صحافة الاتحاد الاشتراكي لأنها نشرت مقالات استنكرت فيها موجة الاعتقالات الكبيرة التي تلت مظاهرات الدار البيضاء واختفاء عدد كبير من الشبان الذين كان أغلبهم ينشطون في جمعيات تؤطرها قيادات الاتحاد.
فهم الصحافيون وقتها أن إدريس البصري لم يكن يطيق أن يكتب عنه أحد ما لا يعجبه، وعند انصرافهم ابتسم فجأة وأخبرهم أن ديوانه مفتوح في وجههم. وربما يكون البعض صدقوا ذلك الكلام، لكن إدريس البصري والذين يعرفونه جيدا، كان يقصد غير ذلك. فقد كان وزراء أقوياء في الدولة، لا يستطيعون اقتحام الباب الأول لمكتب وزارة الداخلية، لأن ديوان الوزير القوي كان يضرب طوقا قويا حول فسحة المكتب التي كانت تتوسطها الكراسي الجلدية. هذه الكراسي جلس فوقها الكثيرون من الكبار والصغار في انتظار أن يسمح لهم مدير الديوان بلقاء الوزير، لكن بعد اختبار صبرهم وأحيانا بعد محاولات لكي يتم اللقاء.
حتى أن المحجوبي أحرضان كتب في مذكراته التي نشرها قبل أربع سنوات تقريبا وأثارت حوله زوابع من الانتقادات، متحدثا عن ديوان إدريس البصري والرهبة الكبيرة التي كانت تسري في نفوس الكثيرين وهم ينتظرون دورهم للدخول إلى مكتب الوزير سواء بعد توصلهم باستدعاء، أو في حالة ما إن طلبوا هم لقاء الوزير، وهو ما لا يتم إلا نادرا جدا. قال أحرضان وقتها إن قوة ديوان إدريس البصري كانت تتمثل في الصلاحيات التي منحها الوزير لموظفي الديوان والذين كان أغلبهم تابعين له بعدما صفى التركة القديمة للوزير بنهيمة الذي كان آخر وزير للداخلية قبل إدريس البصري، وتولى تعيين من يعرفهم مثل محمد الأبيض، وحفيظ بنهاشم، وآخرين لم تكن أسماؤهم متداولة، لكنهم كانوا معروفين لكل الذين كانت لهم تجارب «سابقة» مع وزير الداخلية الأكثر إدارة للجدل في تاريخ المغرب.