![](https://www.alakhbar.press.ma/wp-content/uploads/2019/10/belkziz.jpg)
عبد الإله بلقزيز
ظاهريا، ووفقا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ النظام الدولي، تتمتع كل دولة بسيادتها الوطنية: سيادتها على أراضيها ومياهها وأجوائها وثرواتها.. ناهيك بسيادتها على رعاياها المواطنين، وكثيرا ما «يُجَـرَّم» كل عدوان على سيادة الواحدة منها من طرف أخرى فـتقع معاقبتها شكلا مّا من العقاب القانوني (العسكري، الاقتصادي، المالي، السياسي) على ذلك الانتهاك.
ومع أن سياسة المعايير المزدوجة ما توقـفت، يوما عن الإفصاح عن نفسها في كـثير من الحالات التي وقع فيها الاعتداء الصارخ على السيادات والقوانين، إلا أنه وَقَـر في سياسات الدول أن عليها أن تتمسك بسيادتها، وأن تلجأ إلى مؤسسات النظام الدولي رافعة إليها مَظْـلَمتها إن تعرضت سياداتها تلك إلى أي خرق.
هذا يعني، من الناحية النظرية، أن لكل دولة ولايتها القانونية الشرعية على مواطنيها الذين تربطهم بها علاقة ولاء؛ أكانوا من القاطنين المقيمين في نطاق ولايتها الجغرافية، أو من المقيمين خارجها في المَهاجِـر.
لذلك تميل السلطة القائمة في كل دولة إلى التصرف طبقا لما يقضي به مبدأُ السيادة الوطنية من حـق في إنفاذ أحكام منظومة التشريعات والقوانين في ميادين الحياة والاجتماع الوطني كافـة؛ وهي في الأثناء تكاد أن لا تنتبه إلى مقتضيات القوانين الدولية إلا حين يتعلق الأمر بعلاقات الدولة الخارجية والتزاماتها الدولية؛ إذِ المبدأُ الحاكم لسياساتها، الموجـه لخياراتها أنها سيدة نفسها في داخـل أحوازها تَلِـي أمور ذلك الداخل بحرية ولا ولاية لأحد، من خارجها، عليها.
هكذا تبدو المسألة في نصوص القانون الدولي الموضوعة منذ ثمانين عاما، بل في نظريـة الدولة الوطنية ونظرية السيادة التي مر على زمن هندستها ثلاثمائة عام، بل هكذا اعْـتِيدَ – لأزمنة ممتـدة – على إدراك معنى السلطة وعلى ممارستها في بلدان العالم كافة.
أما في الواقع فالأمر مختلف، وهو اختلف أكثر منذ العقد الأخير من القرن الماضي حين شـرَعتِ السيادات في تلقي موجات غير مألوفة من الاختراق والاستباحة، في وجوه منها مختلفة: اقتصادية، تجارية، مالية، إعلامية، معلوماتـية، سياسية ثـم ثقافية وقيمية. والأطم من طامة استباحة السيادات الوطنية، في قسم كبير من العالم، هو الاعتراف بـ«مشروعية» تلك الاستباحة من قبل القوى الكبرى التي كانت حينها تحتكر السلطة والثروة والعولمة، والسـعي الحثيث في التسويغ القانوني لذلك باسم كونية القوانين أو مرجعية القانون الدولي وعلو أحكامه على أحكام القوانين والتـشريعات الوطنية في العالم أجمع.
من باب الاستدراك الضروري أن يقال، هنا، إن دول العالم ليست جميعها سواء في معاناة سياداتها الوطنية، وإنها في ذلك منقسمة إلى فسطاطين: فسطاط الدول التي تقـرر وتشـرع وتأمـر وتَحْكُـم وتسخر لها الأجهزة والمؤسسات الدولية في سبيل ذلك؛ وفسطاط الدول التي تقع عليها الأحكام تلك فتمتـثـل لها صاغرة مخافة أن يلحقها عظيم الأذى إنْ عَصَتْها.
والعلاقة بين فسطاطي الدول هي عينها العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ بين من يملك موارد القـوة العسكرية والاقتصادية ويتحكم في المؤسسات السياسية والمالية الدولية ومَن ليس له الحولُ والقوة للاعتراض أو حتى لإبداء الرأي.
ومن الطبيعي، في ضوء هذه القسمة (أو في ظلامها)، أن لا يقع للدول القويـة في النظام العالمي بأس يصيب سياداتها بأي من المَـكَارِه المحتملة، فيما يبدو طبيعـيا جدا أن تدفع الدول الصغرى الضعيـفة – دول الجنوب خاصة – أفدح الأثمان من سياداتها.. ومن استقلالية ولايتها على مواطنيها.
أَمْسَـيْنا على نظام وأصبحنا على آخر مختلف تماما؛ نظام يقول عن نفسه إنـه كونـي وجماعي، عابر لحدود الأوطان والدول والاقتصادات والأسواق والنظم والثقافات.. إلخ، ويدعو مَن يتمسك بكيانيـته إلى فتح حدوده والانضمام إليه وإلا ستـفتحها أحكام التعـولم والتشبيك عنوة من غير استئذان.
واليوم، لم يعد انتهاك القانون الدولي والعدوان على «المجتمع الدولي» متمثلا في عدوان دولة على سيادة دولة أخرى، بل في تمسك الدولة بسيادتها الوطنية؛ فلقد صار التمسك بالسيادة الوطنية انتهاكا لميثاق الأمم المتحدة ولمبادئ النظام الدولي!
والمشكلة ليست في أن النص (نـص القانون الدولي) واضح لجهة تشديده على مبدأ السيادة الوطنية، وإنما المشكلة في التأويل: والمنتصر، القوي هو من يملك أن يحتكر فعـل التأويل. لذلك فإن سلطة النص الحقيقـية هي سلطة التأويل!
مَن مِـنْ سلطة سياسية وطنية في عالم اليوم تستطيع أن تصف نفسها بأنها تملك قرارها الوطني، وتمارس وظائفها السياسية في الداخل الاجتماعي بكل سياديـة؟ مَن منها تُـقْـنِع نفسها بأن لها سياسة اقتصادية ومالية واجتماعية خاصة ومستقـلة عن تأثيرات النظام الدولي ومؤسـساته؟ ومَـن منها يمكن أن يدعي بأن مرجعية شرعيتها هي صناديق الاقتراع وإرادة مـن صوتوا لها؟ إن أزمة شرعية السلطة، في زمن العولمة هذا، حقيقة موضوعية لا سبيل إلى إخفائها، ولا إمكان لعلاجها إلا بالعودة إلى نظريـة السيادة الوطنية…
نافذة:
لم يعد انتهاك القانون الدولي والعدوان على «المجتمع الدولي» متمثلا في عدوان دولة على سيادة دولة أخرى بل في تمسك الدولة بسيادتها الوطنية