شوف تشوف

الرأي

السياسية التي تتسلق رفوف الكتب

مالك التريكي

زخرت بريطانيا على مدى أجيال ثلاثة بسياسيين عقلاء كان بينهم اثنان بلغا في قلوب الناس من المكانة ما جعلهم يتمنون وصولهما إلى قمة هرم الحكم. الأول هو دنيس هيلي الذي كان يوصف بأنه «أفضل رئيس وزراء لم تحظ به بريطانيا». أما الثانية فهي شيرلي ويليامز التي كانت تحظى بتقدير الجميع، وتعرف هي أيضا بأنها «أفضل رئيسة وزراء لم تحظ بها بريطانيا». فقد كانت هذه السيدة الفاضلة، التي فارقت الدنيا الشهر الماضي، باكرة النبوغ وكانت من تمام التألق منذ سني الدراسة في أكسفورد، أواخر الأربعينيات، بحيث انتشرت بين الطلاب والأساتذة نبوءة بأن سيكون لها شأن سياسي عظيم. هذا بينما لم يكن أحد يتخيل أيام كانت مارغريت تاتشر طالبة في الجامعة ذاتها إمكان أن يتحقق لها مثل هذا المصير.
تنتمي شيرلي وليامز إلى النخبة البريطانية، التي سارت طيلة قرنين على سنة دراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد، قبل دخول المعترك السياسي. وقد كانت من أولى النساء اللائي اقتحمن السياسة وتولين الوزارة في الستينيات. وكانت ضمن «عصبة الأربعة» الذين قرروا عام 1981 الانشقاق عن حزب العمال وإنشاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي، الذي انتهى أمره بعد عقد واحد، ولكنه فتح الطريق لإحياء الحزب الليبرالي العريق والاندماج معه بعقيدة مجددة في صلب الحزب الديمقراطي الليبرالي. فكان ذلك منتهى الكسر لقالب الثنائية الحزبية (المحافظين والعمال) الذي هيمن على الحياة السياسية لعقود. وقد ساهمت هذه المبادرة في تأكيد جدارة شيرلي وليامز الفكرية والأخلاقية، وتثبيت مكانتها سياسية تقدمية ملتزمة بقضايا العدالة الاجتماعية والتضامن العالمي. أما الذي امتازت به عن الجميع فهو أنها قد كانت امرأة محبوبة حقا بين عموم المواطنين.
كان والدها جورج كاتلن أستاذا في العلوم السياسية. وقد صارت هي بدورها أستاذة في العلوم السياسية في هارفارد، ومحاضرة في جامعات كامبريدج وبرنستون وبيركلي وشيكاغو. ولما كانت بعد صغيرة كان أبوها يدفع بها أمامه في عربة أطفال، ليصطحبها إلى اجتماعات حزب العمال. وحدث عندما كانت تأتي إلى مكتبه أن شجعها يوما على تسلق رفوف المكتبة بلوغا إلى السقف! ولهذا فإن سيرتها الذاتية صدرت، عام 2009، بعنوان «تسلقا لرفوف الكتب». وقد أمضت نصف قرن في عضوية مجلس العموم، ثم مجلس اللوردات. وعندما قررت الاعتزال عام 2016 وجهت نداء بليغا إلى الشعب البريطاني، تناشده التعقل واجتناب خطأ الافتراق عن الاتحاد الأوروبي.
ومما اشتهرت به شيرلي وليامز أنها لم تكن تهتم بمظهرها ولا حتى بتسريح شعرها. وهذا لعمري من علامات قوة شخصيتها وعلو همتها. على أنها كانت في شبابها غانية فائقة الحسن. وقد شغفها فن التمثيل وتميزت، زمن الدراسة، في دور كورديليا في مسرحية «الملك لير». بل إنها ترشحت لما كانت في الثالثة عشرة للتمثيل في فيلم هوليودي، ولكن كانت بين منافساتها صبية أمريكية هي التي فازت بالدور. وبعدها سطع نجمها. اسمها؟ إليزابيث تايلور!
تزوجت شيرلي وليامز الفيلسوف البريطاني برنارد وليامز، الذي كان من أعلام الفلسفة التحليلية واشتهر بنقد فلسفة الأخلاق لدى كانط. وبعد سنوات من الطلاق تزوجت المؤرخ الأمريكي ريتشارد نويستادت، الذي كان من مستشاري الرئيسين كينيدي وكارتر. أما أمها فهي فيرا بريتان، التي كانت من أشهر الكاتبات والمناضلات من أجل السلام العالمي والتي حققت مذكراتها، «شهادة زمن الشباب»، انتشارا واسعا وطبعت عدة مرات. وفي النسخة التي عندي (طبعة 1970) تصدير بقلم شيرلي وليامز تقول فيه إن كتاب والدتها هذا مرثية لشقيقها وخطيبها وللجيل الذي أفنته الحرب العظمى إفناء، وإن الناس لطالما أتوها ليقولوا إن قراءته لا تزال تؤثر فيهم أيما تأثير.
أما مذكرات شيرلي وليامز، «تسلقا لرفوف الكتب»، فإنها شهادة صدق إنساني ووصية أمل سياسي. أقتطف منها سطورا تهمنا لأنها تتعلق بالمقارنة بين استعمارين. حيث تقول إن فرنسا اختارت عددا من الأفارقة، مثل سنغور، وزراء في حكوماتها في الخمسينيات، بينما كان مثل هذا مستحيل التصور في بريطانيا. وتروي أنها عاشت مدة في أكرا لما انتقل زوجها، عام 1958، لتدريس الفلسفة هناك، وكان أن دعا الزعيم نكروما البلدان الإفريقية الثمانية المستقلة حديثا إلى مؤتمر حول بروز «الذات الإفريقية في الشؤون الدولية»، فأتاح لها الاحتكاك بوفود تونس والمغرب والسينغال وغينيا أن تكتشف، بإعجاب، متانة تكوين النخب الفرنكوفونية وأن تثمن ما استثمرته فرنسا في سبيل نشر ثقافتها في المستعمرات. ومن اللطائف التي ترويها أنها سمعت إفريقيين من هذه الوفود يتبادلان حديثا بالفرنسية، تخلله ثناء على عقلانية الفكر الديكارتي (!) فعلقت بأن مثل هذه الملاحظة الراقية ليست مما يتيسر سماعه حتى في أفضل لجان مجلس العموم البريطاني.

تنتمي شيرلي وليامز إلى النخبة البريطانية، التي سارت طيلة قرنين على سنة دراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد، قبل دخول المعترك السياسي. وقد كانت من أولى النساء اللائي اقتحمن السياسة وتولين الوزارة في الستينيات. وكانت ضمن «عصبة الأربعة» الذين قرروا عام 1981 الانشقاق عن حزب العمال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى