الذكاء العاطفي (2-2)
بقلم: خالص جلبي
نحن نعلم اليوم أن مجرتنا فيها مائة مليار نظام شمسي، في مركز كل نظام شمس مختلفة الحجم والتوهج. كما أن الكون المعروف حتى الآن تسبح فيه مائة مليار مجرة «صنع الله الذي أتقن كل شيء». وتحت الطبقات الست بسماكة المليمترات، يأتي نسيج داعم مكون أيضا من نوع جديد من الخلايا العصبية، هي الخلايا الدبقية وعددها 300 مليار خلية، وكان يظن سابقا أن دورها هو الدعم والإسناد، ولكن تبين أخيرا أن لها وظيفتها العصبية الخاصة بها أيضا. وأبحاث الأعصاب ما زالت في أول الطريق، بسبب طبيعة التطور العلمي حتى الآن. فمنذ (غاليلو غاليلي) في عصر النهضة الأوروبية ختم على مصير ومسار تطور العلوم أن تبحث خارج الإنسان. فمشى العلم ليس في طريق معرفة (الإنسان)، بل معرفة (الطبيعة)، وهكذا نمت علوم الفيزياء والكيمياء والكوسمولوجيا ولم تنم علوم النفس إلا يسيرا، مع أن (سعادة الإنسان) و(العدل الاجتماعي) متوقفان على فهم السلوك الإنساني! وهو الذي دعا سكينر في كتابه «تكنولوجيا السلوك الإنساني» أن يعبر على نحو مثير أن فلاسفة اليونان لو حضروا اليوم مناقشات البرلمانات وبحث قضايا الأخلاق والفكر والقانون والسياسة، لخاضوا غمارها بسهولة، ولكنهم أمام أبحاث الفيزياء الذرية سوف تنعقد ألسنتهم من الدهشة بفعل التطور المذهل. ويعقب سكينر على ذلك بقوله: «ليس للفيزياء والبيولوجيا اليونانية الآن سوى قيمة تاريخية، فما نحسب أن عالما معاصرا يتوجه إلى أرسطو طالبا العون، ولكن محاورات أفلاطون ما زالت مقررة على الطلاب ويستشهد بها، كما لو أنها تلقي ضوءا على السلوك البشري. وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة من الفيزياء الحديثة، ولكن سقراط وأصدقاءه لن يجدوا صعوبة في متابعة أحدث المناقشات الجارية في مجال الشؤون الإنسانية. وفي ما يتعلق بالتكنولوجيا، فقد قطعنا خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزياء والبيولوجيا، ولكن ممارساتنا في الحكم والتربية لم تتحسن تحسنا ملحوظا». وعندما يبحث عن السبب، يرى أن بذور العلم اليوناني على فجاجته، ساهمت في وضع اللبنات الأولى التي قادت إلى علوم الفيزياء الحديثة، ولكن علوم السلوك الإنساني لم تكن لتحتوي على بذور صالحة للنمو.
يقول سكينر: «إن الفيزياء والبيولوجيا الحديثة تعالج بنجاح موضوعات ليست بالتأكيد أبسط من نواح كثيرة من السلوك البشري، ولكن الفرق هو أن الأدوات والمناهج التي تستخدمها الفيزياء والبيولوجيا هي ذات تعقيد متكافىء مع تعقيد الموضوع. ولكن قولنا إن الأدوات والمناهج ذات القوة المتكافئة غير متوفرة في ميدان السلوك البشري لا يعتبر تفسيرا، إنه فقط جزء من اللغز المحير. فهل وضع إنسان على سطح القمر أسهل من تحسين التربية في مدارسنا؟».
ويعتبر عالم الأعصاب (جوزيف لو دو JOSEPH LE DOUX) بمركز علوم الأعصاب في جامعة نيويورك أول من كشف (الدورة المخية للعواطف)، كما كشف هارفي الدورة الدموية وعرف أن النتوء اللوزي في الدماغ المتوسط هو المسؤول عن العواطف. وهكذا وضعنا اليد على الأقل من الناحية التشريحية على مكان الانفعالات. ويبدو أن هذا المركز مخصص في التعلم والذاكرة مع (قرن آمون HYPOCAMPUS) القريب منه، وهو خاص بالذاكرة للوقائع العادية. أما (الأميجدالا AMYGDALA) أو النتوء اللوزي فهو مستودع الشحن العاطفي. بمعنى أن الأول يجعلنا نتذكر الشخص حينما نراه، ولكن تحرك عواطفنا تجاهه بالكره أو الحب فهو من اختصاص الأميجدالا. وكما يقول دانييل جولمان، صاحب كتاب «الذكاء العاطفي»: «في أول جزء من ألف جزء من الثانية من فهمنا لشيء ما، لا نكون واعين لهذا الفهم فقط، بل نقرر إذا كنا نحبه أم لا». كما عرف عن الأقنية العصبية التي تصل بين النتوء اللوزي وفصوص الدماغ الأمامية أنها أقصر وتقاس عادة بالألف من الثانية. وعرف أن الزمن بين النتوء اللوزي ومقدمة الدماغ يأخذ 12 بالألف من الثانية، ولكنه يأخذ ضعف الزمن حتى يتم تحليله في قشرة الدماغ التي تمثل مركز التحليل المنطقي البارد. وهذا يلقي الضوء على شيء خطير، هو أنه بقدر ما كان دماغنا مؤهبا للتصرف السريع وإطلاق أجراس الإنذار في المواجهات الخطيرة، بقدر خطورة انفلات الأعصاب والدخول في حالة أشبه بالجنون وعدم التبصر بالعواقب، كما حدث في الجريمة التي رويناها عندما استولى الغضب والخوف على اللص. كذلك كشفت الأبحاث الحديثة ثلاثة أمور مثيرة: أن فصوص الدماغ الأمامية تمثل مراكز الحكمة ومكان اتخاذ القرارات، وعندما تستأصل يموت الإنسان عاطفيا وتتبخر كل ألوان الحكمة من تصرفاته، وقد يقع في مرض (الكسيثيميا ALEXITHYMIA)، أي مرض فقد التعبير عن العواطف. والأمر الثاني أن فصوص الدماغ الأمامية تتوزع فيها الوظائف، فالمزعجات موجودة في اليمين ومفتاح تعديلها في الفص الأمامي الأيسر. بمعنى أن جراحة استئصال الفص الدماغي الأيمن الأمامي تجعل صاحبها سعيدا بدون منغصات. وأما الأمر الثالث فقد تبين أن الطفل يولد وعنده الأميجدالا نامية بما فيه الكفاية، وهذا يعني أن النمو العاطفي يتشكل بدون كلمة. أي أن الخبرات الانفعالية تنمو بدون ضوابط الثقافة والكلمات، وهو بهذا الاكتشاف يلتقي مع مدرسة (علم النفس التحليلي)، التي ترى أن أزمات الطفولة تترك بصماتها إلى بقية العمر مختبئة في اللاشعور.
بقدر ما كان دماغنا مؤهبا للتصرف السريع وإطلاق أجراس الإنذار في المواجهات الخطيرة، بقدر خطورة انفلات الأعصاب والدخول في حالة أشبه بالجنون وعدم التبصر بالعواقب، كما حدث في الجريمة التي رويناها عندما استولى الغضب والخوف على اللص