الدين في السياسة والعلاقات السياسية
عبد الإله بلقزيز
ما من فساد في السياسة، أشد فتكا بها، من الفساد الذي يطرأ عليها من إدخال عوامل غير سياسية في نسيجها أو في نظام اشتغالها. السياسة – كما لم ننفك نقول- فعل مداره على المصلحة.
وهذه موضوع قابل للتفاهم حوله وتنظيم العلاقة بشأنه، بما لا يحول التعارض في المصالح إلى نزاعات لا تقبل المعالجة. والقاعدة هذه تصح في حالات السياسة جميعها: في حالة السياسة داخل المجتمع الوطني الواحد، وفي حالتها داخل المجتمع الكوني؛ في علاقات الدول والأمم بعضها ببعض. كلما التزمت السياسة قواعدها السياسية المادية استقام أمرها، حتى وإن هي دارت على مسائل خلافية ونزاعات على المصالح حادة، وكلما استدخلت فيها من العوامل التي هي ليست من أرومتها، أدخلت في جوفها من عوامل الاضطراب والعوار ما يفسد اشتغالها.
حين تستدرج السياسة، في حقلها الوطني، عوامل الهوية والعصبية والانتماء الفرعي والدين، تضع نفسها بذلك الاستدراج في المكان الذي يتعصى فيه السيطرة على المنازعات الاجتماعية. هكذا لا تعود السياسة مجموع أفعال مواطنين مشدودين إلى منظومة قوانين وحقوق وواجبات وإلى ولاء للدولة والوطن، بل أفعال جماعات مشدودة إلى روابط أهلية عصبوية (قبلية، عشائرية، مناطقية، عائلية، مذهبية)، ومشدودة إلى ولاءات فرعية (للدين أو المذهب أو العصبية). وحينها، لا تصبح نزاعات السياسة، التي تدور، غالبا، على السلطة والثروة، قابلة للاحتواء والاستيعاب والتسوية؛ بالاحتكام إلى الدستور أو القوانين الجامعة، ومنصرفة إلى توسل أدوات القوة والعنف، ومدفوعة بقصوويتها إلى الحدود الأبعد في أهدافها، على النحو الذي تتعصى فيه على الاستيعاب. وحتى حينما تشهد على تسوية ما لها، تأتي التسوية تلك اقتساما للحصص، وعبثا بمنطق السياسة والسلطة، وبالتالي، تأسيسا لأزمات جديدة ما تلبث أن تتفجر نزاعات حادة.
الأمر نفسه يحصل للسياسة وللعلاقات السياسية، في النطاق فوق- الوطني؛ أي في نطاق علاقات الأمم والدول. حين تستدخل العلاقات السياسية عوامل الاختلاف الديني، أو النزاعات الدينية بين أتباع هذه الملة وأتباع تلك من الشعوب والأمم، أو تحاول استثمار مخزون مشاعر العداء والخوف المتبادل، المتوارثة من أزمنة سابقة، تحكم على نفسها بالتأزم، بل تفرض على نفسها الجنوح لخيارات متطرفة مثل الحروب، والتحريض على الخصوم وشيطنتهم وتجييش الرأي العام ضدهم. هكذا تذهل السياسة – في نفق النزاعات الدينية- عن طريقها الملكي: الحوار بمفردات السياسة قصد التفاهم سياسيا على مصالح قابلة للتفاهم بشأنها، فتنطلق إلى التعبير عن نفسها تعبيرا وحشيا غير مدني وترسخ، بذلك التعبير، حال التأزم والعداء المكين.
ما من حاجة بنا إلى كثير شرح وتنفيل لبيان أن النزاعات الحاصلة، اليوم، بين الغرب وعالم العروبة والإسلام ليست بعيدة، تماما، من أجواء النفخ في جمراتها باسم الدين والاختلاف بين نظام القيم هنا وهناك. يقال ذلك، أحيانا، بلغة صريحة، من دون استحياء، من نوع القول إن النزاع بين العالميْن نزاع بين مجتمعات (ودول) إسلامية ذات منظومة تقليدية مغلقة ومجتمعات غربية ذات قيم يهودية- مسيحية مشتركة؛ أو من نوع القول إن الحرب التي تنتظر العالميْن هي «حرب حضارات». ولكن ذلك يقال، أيضا، بلغة أقل حدة من لغة المحافظين، من نوع القول إن النزاع بين العالميْن نزاع بين عالم يرفض الاعتراف بكونية القيم الغربية وعالم يسعى في حمله على الاعتراف بها والانضواء تحت أحكامها. وشأن القيم، هنا، شأن الدين لأنها تحيل إلى الثقافي أكثر مما تحيل إلى المادي والمصلحي. لهذه الأسباب نشهد على هذه الأحوال من التأزم في العلاقات بين العرب (والمسلمين) والغرب، على الرغم من أن أكثرها يقبل تسويات أو حلولا سياسية تستقيم بها أو، على الأقل، يُحقن بها نزيف مجاني.
وهكذا، كما أنه لا مَهْرب من تحييد الدين في النزاعات الاجتماعية على السلطة والثروة في أي مجتمع وطني، قصد استقامة وظيفة السياسة ووظيفة الدين معا (وهذا ما نجحت في تحقيقه تجربة الدولة الوطنية الحديثة)، كذلك لا مهرب من تحييد الدين والخلافات الدينية من العلاقات السياسية بين الأمم والدول، قصد تشذيبها مما ليس سياسيا فيها، وتمكينها من مقاربة مشكلاتها بما هي مشكلات مصالح مادية قابلة للمعالجة، وفي أفق بناء نظام دولي جديد على القيم المدنية الحديثة التي قامت عليها الدولة الوطنية الحديثة. النزاع على الدين نزاع فكري لا دخل للسياسة فيه وإلا أفسدته، والنزاع على المصالح نزاع سياسي لا دخل للجدال الديني فيه وإلا أفسده. ستستمر المجادلات حول الأديان ولن تتوقف، وإن كان يمكن أن تترشد بأدوات العقل، أما الصراعات السياسية- وإن كانت هي، أيضا، لن تتوقف- فتملك من أسباب ضبط إيقاعاتها الكثير من الأدوات والوسائل.
كما أنه لا مهرب من تحييد الدين في النزاعات الاجتماعية على السلطة والثروة في أي مجتمع وطني، قصد استقامة وظيفة السياسة ووظيفة الدين معا، كذلك لا مهرب من تحييد الدين والخلافات الدينية من العلاقات السياسية بين الأمم