الخيط الأبيض
يبدو أن صراع «الإخوة الأعداء» داخل البيت الاتحادي سيزداد حدة مع مرور الوقت، وأن فشل المساعي «الداخلية» و«الخارجية» لرأب الصدع بين الفريقين المتنافرين ينذر بانشطار جديد للحزب، مما من شأنه أن يؤثر سلبا على «جبهة» المعارضة التي ما فتئت تحاول التشكل، وبالتالي يضعف حظوظها في إسقاط حكومة بنكيران.
فبعد التحدي الذي رفعه تيار الديمقراطية والانفتاح الذي يقوده الزايدي في البرلمان في وجه إدريس لشكر، ووصول الفريقين المتناحرين إلى الباب المسدود، لم يبق لهذا الأخير بعدما استنفد كل الوسائل المتاحة أمامه لتفادي «المؤامرة الكبرى» التي تحاك ضد الحزب، والتي كادت أن تفرز فريقا برلمانيا اتحاديا لا يضم في صفوفه كاتبه الأول، سوى أن ينادي على الأخت نسيمة الحر ويلتمس منها أن تعقد لهم صلحا من خلال برنامجها الشهير «الخيط لبيض»، وذلك لخبرتها المكتسبة في فض الخلافات بين أفراد العائلة الواحدة، وإعادة المياه إلى مجاريها، وإقناع فريق الزايدي بالسماح لإدريس بأن يكون رئيسهم وأن يستحملوا خطابه عقابا لهم على رفضهم لقرار اللجنة الإدارية للحزب التي جعلت «حسناء» رئيسة لهم.
أما السيد «راشيد» الطالبي العلمي، الذي بمجرد ما جلس فوق كرسي رئاسة البرلمان أصيبت المؤسسة، الله يجعل السلامة، بالشلل، فما عليه إلا أن يبتعد عن الملف، وأن يهتم بتسخين كرسيه البارد، وأن لا يحاول لعب دور «الأخت نسيمة» مرة أخرى، فهو بسوء طالعه كاد أن «يعور لها العين»، وأن يخلق أزمة دستورية في البلاد، ولا أحد سيصدقه حين يقول إنه كقيادي في حزب مشارك في الحكومة لم يكن يستهدف بتدخله لدى خصومه الاتحاديين سوى الإبقاء على «الاتحاد قويا وموحدا». فالأخ «راشيد» شاطت عليه «القوة» في التجمع الوطني للأحرار وبدأ يصدرها نحو الأحزاب الأخرى. «هادي هيا خلاتو ممدود ومشات تعزي فمحمود».
واليوم نرى كيف أن الزايدي رفض أن «يزايد» عليه الأغيار من خارج الحزب، وفضل التضحية بالمنصب والاحتفاظ بالمقعد، تحت الضغوط التي فرضت تماطل العلمي في الحسم، وتلكؤ الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية في إيداع لائحته بمكتب المجلس، وصمت القبور الذي لجأت إليه بقية الفرق، وهكذا اضطر إلى التخلي على طريقة جمال عبد الناصر عن رئاسة الفريق الاشتراكي، متهما مجلس النواب بعدم تطبيق القانون، وعدم المساهمة في حل الإشكال، والانحياز لطرف ضد آخر.
ولعل استقالة الزايدي لن تكون إلا مقدمة لمزيد من التفاعلات التي قد يعرفها الحزب مستقبلا، والتي سيسمع صداها في الفروع قريبا، بعيدا عن ضغوط المؤسسة التشريعية وإكراهاتها، التي تعطلت بفعل هذه الأزمة، في ظرفية تمر منها القضية الوطنية بمراحل دقيقة تستدعي التعبئة الشاملة أكثر من أي وقت مضى.
وهكذا إذا قبل الإخوة الأعداء وساطة الأخت نسيمة الحر سنتابع في الروبورتاج كيف أن إدريس لشكر كان سباقا إلى استفزاز منافسيه، وكيف أنه مباشرة بعد انتخابه كاتبا أول للحزب، قام باستدعاء عبد العالي دومو وعلي اليازغي لاستفسارهما حول تصريحاتهما التي نسبت إليهما بشأن تدخل وزارة الداخلية لصالح انتخابه، بعد صدور بلاغ ناري لوزارة الداخلية يتوعدهما بالمتابعة القضائية.
كما سيشكون لنسيمة عزل إدريس لشكر للزايدي من رئاسة فريق مجلس النواب تمهيدا لطرده، وسيشكون لها تصريحاته غير المحسوبة بخصوص تعدد الزوجات والميراث في الاسلام، التي جرت عليه وعلى الحزب الكثير من الانتقادات، ليس آخرها خروج المجلس العلمي الأعلى مذكرا إياه بقاعدة أن لا اجتهاد مع وجود النص. وكأن رئيس المجلس العلمي الأعلى يقول لإدريس «سبحان الله آ الزعيم»، على وزن «سبحان الله آ الفقيه».
وسيرد عليهم لشكر في الروبورتاج الثاني بأنه كان مجبرا على اتخاذ خطوة استدعاء دومو واليازغي لتأديبهما، ولو أنها خطوة غير ودية تجاه صديقه وشريكه القديم في مكتب المحاماة، لتفادي التصعيد مع وزارة الداخلية، التي رفضت أن يتم إقحام أجهزتها ومسؤوليها في شأن حزبي داخلي يخضع لخلفيات سياسية بعيدة كل البعد عن طبيعة أداء وزارة الداخلية٬ وعلاقتها بمختلف مكونات المشهد السياسي الوطني، وأن حماسه الزائد أمام النساء الاتحاديات، جعله يعدهن بالمساواة في الإرث وبمنع التعدد، زيادة على أنه كان يريد إغاظة «الظلاميين» وإخراجهم إلى العلن، ليكشفوا عن وجههم الحقيقي.
وسيقول أنصار الزايدي إنه على الرغم من كون وزارة الداخلية رفضت أن يزج بها في صراع أجنحة الاتحاد، فإن إدريس لشكر نفسه لم يتردد في أن ينشر على صفحات جريدته الحزبية برقيات التهنئة التي تقاطرت عليه بمناسبة انتخابه كاتبا أول من عدة ولاة وعمال من مختلف جهات المملكة، والذين عبروا فيها عن «خالص التهاني وأجمل التبريكات على الثقة التي حظي بها، داعين الباري جل علاه أن يمتعه بنعمة الصحة والعافية ويشمله بعونه ورعايته، ويكلل أعماله بمزيد من التوفيق والنجاح…»، وأن هذا التباهي برسائل الولاة والعمال من طرف لشكر جر على هؤلاء توبيخا من الوزارة التي يتبعون لها.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن إدريس لشكر لم يتوان بدوره عن اتهام المستشار الملكي الطيب الفاسي الفهري بالتدخل في شؤون الحزب، وبأنه اقترح اسم أحمد رضا الشامي لتولي رئاسة الحزب في لقاء حضره الشامي شخصيا.
وربما سيتدخل الأخصائي النفسي ضيف البرنامج خلال الروبورتاج الثالث، ليشرح لنا أن هذه الاتهامات والاتهامات المضادة من قبل الفريقين لها علاقة بوجود أياد خفية تحاول العبث برصيد الاتحاد الاشتراكي وتشتيت اليسار، ناتجة عن مخلفات سنوات الرصاص، وعقدة الاضطهاد التي يعاني منها بعض القياديين بسبب تلك المخلفات، والذين بالرغم من كونهم أصبحوا في وضعية مريحة ماديا ومعنويا، وأصبحوا يشغلون أبناءهم في أرقى المؤسسات العمومية، فإنهم ما زالوا يحنون إلى الماضي، ويحاولون استثماره بشكل لا إرادي في استدرار عطف الجماهير الشعبية عليهم وعلى حزبهم. أضف إلى ذلك أن حزب الاتحاد الاشتراكي يعاني من عقدة الزعيم المثالي المفقود، الذي يتمثل في الخيال الجمعي لعموم الاتحاديين والاتحاديات في الثلاثي المهدي بنبركة و عبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون، وفي مستوى معين عبد الرحمان اليوسفي، وبالتالي فإن كل زعيم جديد يقاس حجمه بمقياس هؤلاء العمالقة الكبار، لا يمكن أن ينظر إليه من طرف بقية الإخوان إلا كقزم لا يستحق لقب الكاتب الأول للاتحاد، ولا يعترف به إلا بعد الموت، ولهذا استكثر الاتحاديون على اليازغي لقب الكاتب الأول وقرنوا صفته دوما بلقب كاتب أول بالنيابة، ولهذا تجد الاتحاديين لا يجتمعون بمختلف تياراتهم ومشاربهم إلا في جنائز وأربعينيات بعضهم البعض.
أما الخبير القانوني للبرنامج فربما سيقول للأخت نسيمة إن المشكل ليس نفسيا بل قانونيا، وإن الفصل 61 من الدستور أربك حسابات الأحزاب عندما نص على أنه «يجرد من صفة عضو في أحد المجلسين كل من تخلى عن انتمائه السياسي، الذي ترشح باسمه للانتخابات، أو الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها»، فيما لم يتم التنصيص في القانون الداخلي لمجلس النواب على آلية واضحة وحاسمة لتشكيل الفرق والمجموعات النيابية، مما جعل كل واحد من الخصمين يحاول عزل الآخر، والإيقاع به في مطب التجريد من الصفة البرلمانية، وهو ما أصبح بالنسبة لكل واحد منهما معركة كسر العظام، أو مسألة حياة أو موت، سياسي طبعا.
وقبل أن تختتم جلسة الخيط الأبيض لا شك أن الأخت نسيمة الحر ستطلب من الإخوة المتصارعين أن يلعنوا الشيطان الرجيم الذي يختفي في التفاصيل، وأن يتقوا الله في حزبهم وفي تاريخه النضالي، وأن يعالجوا مشاكلهم وعقدهم بالحكمة والتبصر، وأن يستحضروا الروح الديمقراطية التي يجب أن تسود بينهم و…وكمل من عندك.