شوف تشوف

الرأي

الحكومة الظالمة

بقلم: خالص جلبي
تقول القصة إن «كونفوشيوس» مر على مقربة من جبل «تاي»، فأبصر امرأة تقف إلى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة، فسارع إليها، وبعث بتلميذه «تسي – لو» يسألها: «إنك لتبكين يا امرأة، وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان». فردت المرأة تقول: «وكذاك الأمر فقد قتل نمر من قبل والد زوجي في هذا الموقع، وقد قتل زوجي أيضا. وها هو ولدي قد مات الميتة نفسها أيضا». فقال المعلم: «ولماذا… لماذا لم تتركوا هذا المكان؟»، فردت المرأة: «ليست هنا حكومة ظالمة». فقال المعلم آنذاك: «تذكروا قولها يا أولادي، إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر».
نعم إن الحياة في غابة أفضل من الحياة في مجتمع بدون قانون. ويعقب الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» في كتابه «السلطان» على هذه الواقعة للتأكد من «كون الحكومة أقل فظاعة من النمر» فيرى أن مشكلة ترويض السلطان موضوع قديم: «وظن الطاويون أنها مشكلة لا تحل فنصحوا بالفوضوية… وجرب العالم الحكم العسكري المطلق، والثيوقراطي، والملكية الوراثية، وحكم القلة، والنظام الديموقراطي، وحكم القديسين. ويدل كل هذا على أن مشكلتنا لم تحل بعد».
ويذكر «إمام عبدالفتاح إمام» تجربة اجتماعية رهيبة في كتابه «الطاغية»، ص 54، أن العادة جرت في بلاد فارس قديما «عندما يموت الملك أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون، بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد، وكان الهدف من من وراء ذلك، هو أنه وبنهاية هذه الأيام الخمسة، وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة، سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع، إذا غابت السلطة السياسية».
ويرى «راسل» أن الدولة يمكن أن تمارس ضغطها الساحق في صور شتى كما في علاقتنا بالحيوانات، سواء بتعليق الخروف بحبل وشده بعنف وهو السلطان العاري، أو عندما يلحق الحمار الجزرة مقتنعا أن مصلحته في أن يفعل ما نريد، أو الحيوانات التي تتقن «التمثيل» وسطا بين هذين الصنفين، أو بصورة مغايرة كما في قطعان الأغنام عندما نريد حملها إلى البواخر فنجر قائد القطيع بالقوة، فلا تلبث حيوانات القطيع الأخرى أن تسير وراءه راضية مختارة. وحسب «راسل» فإن: «حالة الخروف تتمثل في سلطان الشرطة والقوات العسكرية، وتمثل حالة الحمار والجزرة سلطان الدعاية. وتظهر الحيوانات الممثلة قوة التعليم، فتؤدي الجماهير التحية للقائد البطل. أما القطيع الذي يتبع قائده المقهور على إرادته، فيتمثل في السياسات الحزبية، عندما يكون زعيم الحزب أو قائده موثوقا إلى زمرة من الناس».
ويرى «راسل» أن المخلوقات البشرية لا بد لها من أن تعيش على نحو جماعي، ولكن رغباتها: «خلافا لرغبات النحل تبقى فردية، ومن هنا تنشأ المتاعب والحاجة الماسة إلى قيام حكومة». وعند هذا الخيار الموجع بين «فوضى الغابة» و«طغيان الدولة» ولدت الحكومات، ولكن مع عدم التكافؤ في السلطان: «إذ إن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين. وهكذا فإن الطغيان والفوضى يتشابهان في نتائجهما المدمرة». أو كما قال «أفلاطون» في كتابه «الجمهورية»: «إن عقيدتي هي أن العدالة لا تخرج على أن تكون مصلحة الأقوى».
وقصة كونفوشيوس مع المرأة تفتح الباب لفهم سيكولوجية الطغيان. فالطغيان مرض اجتماعي إنساني؛ فلم نسمع أن نحلة مثقفة هتفت بالحرية ضد الظلم؛ وإذا حاولت نحلة أن تدعي الثقافة فترقص لقطيع النحل فقد يستمتعون برقصها، ولكن مفهوم الطغيان قد يضيع وقتهم عن جمع الرحيق وإنتاج العسل.
والعقارب تعيش على وجه الأرض منذ 400 مليون سنة، ولكن لم يحدث أن حصل انقلاب عسكري بين صفوفهم يقوده الرفاق الثوريون، كما لم نسمع عن ثورات في مجتمع النمل.
والحيوانات والحشرات والطيور ودواب الأرض وبنو البشر يعيشون في مجتمعات، وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ولكن المجتمع الإنساني مفتوح، وبقية المجتمعات مغلقة تعيش برتابة. المجتمع الإنساني يتطور، ومجتمعات السمك والحشرات والأفاعي لم تغير سمتَها منذ نصف مليار سنة، منذ أن بدأت عديدات الخلايا في الظهور في الانفجار الثاني البيولوجي الذي حدث قبل 530 مليار سنة، بعد الانفجار الكوسمولوجي الذي حدث قبل 15 مليار سنة.
وهذه الحقيقة الأولى تقودنا إلى شرح الفكرة الثانية، التي أوردها «ابن خلدون» في مقدمته، وأثبتها علم «الأنثروبولوجيا»، عن «ضرورة» المجتمع الإنساني. فالحصان أوالعجل ينزل من بطن أمه فيمشي فورا، والطفل الرضيع يحتاج سنة حتى يقف على قدميه. ويأتي الإنسان إلى الحياة وهو أضعف المخلوقات قاطبة، ليتطور لاحقا فيرسل مركبات فضائية إلى المريخ، ويكشف الكود الوراثي، ويمتلك طاقة النجوم، ويسحق الزمن إلى الفيمتو ثانية، ويتخاطب بسرعة الضوء، ويكشف عن المركبات دون الذرية من الكواركز واللبتونات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى