في الفترة الزمنية ما بين 1926 و1936، كان عدد الحاصلين على البكالوريا في المغرب لا يتجاوز 30 تلميذا، أي بمعدل 3 تلاميذ في السنة، كلهم طبعا من الذكور. وفي الفترة ما بين 1945 إلى 1955، ارتفع عدد الحاصلين على شهادة البكالوريا إلى 175 تلميذا نسبة التلميذات فيهم لا تتجاوز خمسة في المائة.
في كتابه: «النخبة المغربية والتعليم الأوروبي زمن الحماية»، للباحث محمد اليزيدي، إشارات إلى إقبال النخب المغربية على تلقين أبنائها تعليما أوروبيا بالمغرب، فـ «الرغبة في التميز والاختلاف والطموح إلى الحصول على البكالوريا لمتابعة الدراسة، شكلت أسبابا حقيقية لإقبال المغاربة المسلمين على هذا النوع من التعليم».
عمل المقيم العام ليوطي على جعل التعليم أولوية وأعطى اهتماما بالغا لتعليم أبناء الأوروبيين، حيث عمل على استقدام أستاذين من جامعة بوردو لتنظيم أولى امتحانات البكالوريا بالمغرب سنة 1915، وبلغ عدد المرشحين لنيل هذه الشهادة 13 مرشحا.
في عهد الاستعمار، كان حضور الفتاة المغربية في اختبارات البكالوريا نادرا جدا، لكن بعد الاستقلال ارتفع عدد المشاركين والناجحين طبعا، وضمت قائمة الذين اجتازوا الاختبار مجموعة من الفتيات أغلبهن من علية القوم.
غير أن الوقائع التاريخية تجمع على أن سنة 1861 شهدت نجاح أول امرأة في البكالوريا على المستوى العالمي وذلك بفرنسا، وكانت صاحبة هذا الشرف هي «جولي فيكتوار دوبيي»، فيما يرجع ظهور اختبار البكالوريا في فرنسا إلى قرار صدر عن نابليون بونابرت في 17 مارس 1808، وكان شرط المشاركة فيها آنذاك بلوغ سن 16، وكان الامتحان شفويا فقط.
عملت الحماية الفرنسية على احتواء المد الفكري القادم من الشرق العربي، وسارعت إلى تحصين نظمها التعليمية بالحد من ولوج المغاربة للمدارس الفرنسية، قبل أن تسمح بإجراء بعض التعديلات، خاصة في عهد المقيم «غابرييل بيو».
فمن هن أبرز المغربيات الحاصلات على شهادة البكالوريا ونافسن الفرنسيات على اجتياز عقبتها؟
الأميرة لالة عائشة.. أول مغربية تنال البكالوريا
ظلت المعرفة حكرا على ثلة من النساء الفرنسيات، قبل أن تكسر الأميرة لالة عائشة طوق الحصار المضروب على المرأة المغربية، وتمكنت من بلوغ الريادة في كثير من المجالات، حيث أصبحت أول سفيرة في العالم العربي وكانت من أوائل الحاصلات على شهادة البكالوريا في زمن احتكارها من طرف الرجل.
ولدت الأميرة لالة عائشة بالرباط في 17 يونيو 1930، وتابعت دراستها الابتدائية في العاصمة، قبل أن تلتحق بالديار الفرنسية لاستكمال تعليمها. كانت الأميرة تتمتع بذكاء ملحوظ، شهد لها به أساتذتها وكذا التلميذات اللواتي تابعن معها الدراسة؛ حيث تابعت دراستها إلى أن حصلت على البكالوريا، وأسند إليها الملك محمد الخامس في شبابها مهمة تمثيل المرأة المغربية.
يعرف كثير من المتتبعين لتاريخ المغرب مضامين الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد الخامس في مدينة طنجة سنة 1947، لكن الكثير لا علم لهم بالخطاب الذي أعقبه، حيث ألقت الأميرة لالة عائشة في تلك المناسبة خطابا مهما، بعد خطاب والدها التاريخي.
ومن الصدف الغريبة، في حياة الأميرة، أنها حصلت على شهادة الباكالوريا، قبيل النفي الرهيب إلى كورسيكا ومنها إلى مدغشقر. فبعد الترحيل انقطعت الأميرة عن الدراسة ولم تتابع تعليمها الجامعي، وبعد عودة الأسرة الملكية من المنفى شاركت في الحياة السياسية، وذلك في السنوات الأولى من الاستقلال، ودعت من خلال مجموعة من المناصب التي تقلدتها إلى تشجيع تمدرس المرأة المغربية، وقادت حملات في هذا الاتجاه وهي حينها رئيسة لمؤسسة «التعاون الوطني»، وأول سفيرة في العالم العربي.
زبيدة بورحيل.. أول غرباوية في بعثة دراسية ذكورية لمصر
كان تعليم الفتاة خلال الحقبة الاستعمارية أمرا عصي الفهم، وكانت عائلات قليلة غالبيتها ميسورة تسمح لفتياتها بمتابعة دراستها إلى ما بعد الابتدائي، وكان الكثير منها يصر على أن تلزم البنات المنزل، لذلك يمكن اعتبار المسيرة الدراسية لزبيدة بورحيل أمرا استثنائيا، فقد درست الابتدائي والثانوي، بل جاوزت ذلك إلى التعليم العالي، ولم تقف عند هذا الحد بل سافرت في بعثة دراسية إلى القاهرة لمتابعة تعليمها، في الوقت الذي كانت أغلب رفيقات دربها، في الأربعينيات والخمسينيات، يسمح لهن باستكمال مسارهن التعليمي في جامعة القرويين، أي بالاقتصار على التعليم الديني، على غرار زهور الزرقاء وحبيبة البورقادي، أو أمينة اللوه، التي تابعت دراستها في إسبانيا.
بدأت زبيدة مسيرة العلم في منتصف الأربعينات وتحديدا في مدرسة التقدم الإسلامية في القنيطرة، التي أنشأها حزب الاستقلال، وكانت ضمن أول فوج التحق بهذه المدرسة المختلطة، هناك حصلت على الشهادة الابتدائية، وكان الامتحان يجري في مدارس محمد الخامس في الرباط، وقبل بزوغ فجر الاستقلال حصلت على الشهادة الثانوية. تقول زبيدة في إحدى شهاداتها إن المدرسة «خصصت أربع ساعات كل أسبوع لتعليم الفتيات الخياطة والطرز، وثلاث ساعات للرياضة البدنية، وكانت الامتحانات كلها تتم في الرباط، وغالبا ما كان يتم اعتقال المدرسين في ذلك العهد».
خلافا لكثير من رفيقاتها، اختارت عائلة بورحيل أن تتابع الفتاة دراستها في مدارس وطنية، خلافا للإقبال الذي شهده التعليم العصري، وحين حصلت على البكالوريا أخذت نفسا قبل أن تقرر المشاركة في بعثة دراسية مغربية إلى القاهرة، حيث حصلت هناك على الإجازة في الفلسفة. وحين نضع الأمر في سياقه التاريخي ونتصور وجود فتاة ضمن بعثة دراسية خارجية ذكورية يظهر لنا حجم تضحية عائلتها.
لم تكتف زبيدة بالفلسفة بل كانت لها اهتمامات أخرى، إذ بعد تخرجها وحصولها على شهادات عليا، أصبحت أستاذة وباحثة جامعية في جامعة محمد الخامس، كما درست مادة الخدمة الاجتماعية في معهد العلوم الاجتماعية قبل إغلاقه. لكنها ظلت كاتبة ومترجمة وصحافية حين عينت رئيسة تحرير مجلة «البحث العلمي»، كما اشتغلت في هيئة التحرير لمجلة «الاقتصاد والاجتماع».
حصلت على الدكتوراه واختارت الهجرة إلى كندا سنة 1989 حيث زاولت نشاطها الثقافي وشاركت في عدة محافل أدبية وجمعوية ونشرت أبحاثها في عدة صحف بالفرنسية والعربية، منها جريدة «المرآة» التي كانت تصدر بمونتريال.
زهور الزرقاء.. أول امرأة تحصل على شهادة العالمية
ولدت في 24 شتنبر 1934 بمدينة فاس، وتابعت دراستها بجامعة القرويين، حيث حصلت على شهادة العالمية سنة 1957. وكانت رفيقاتها من قبيل عائشة السقاط وفاطمة القباج يذكرانها كرفيقة لهما في العمل العلمي والسياسي. قالت عنها عائشة السقاط إن أمها كانت تتميز بفكر متنور وهي التي ساهمت في تشجيعها على العلم وسعت كثيرا وراء نجاحها.
التحقت زهور الزرقاء، وتسمى أيضا زهور الأزرق، بجامعة محمد الخامس بالرباط، حيث حصلت على شهادة في التربية وعلوم النفس في يونيو 1959، وعلى شهادة في الأدب المقارن واللسانيات سنة 1967، كما حصلت سنة 1976 على دكتوراه السلك الثالث في الدراسات الإسلامية من جامعة السوربون بباريس.
اشتغلت كأستاذة بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، ونشرت أولى أبحاثها العلمية في الصحف المشرقية سنة 1952، كما نشرت كتاباتها بعدة منابر: الرسالة، مجلة عائشة، مجلة الدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير، مجلة الفنون وصحيفة الوحدة المغربية..
وتميزت بمشاركتها في أولى مؤتمرات الاتحاد النسائي العربي وفي المهرجان العالمي للشباب بموسكو منتصف الخمسينات، كما انضمت لاتحاد كتاب المغرب، وانتخبت عضوا في المكتب المركزي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق المواطن.
وتوفيت يوم الأحد 5 شتنبر 1993 بأحد مستشفيات باريس بعد مرض عضال لم يمهلها طويلا.
يحسب لحزب الاستقلال إصراره على استحضار هذه المفكرة الاستقلالية، من خلال عمل المكتب التنفيذي للمرأة الاستقلالية على إحداث مركز زهور الزرقاء للدراسات والأبحاث، وحددت أهدافه في كتابة تاريخ الحركة النسائية في المغرب، وتوثيق اتصالات المرأة الاستقلالية، والعناية بالأقلام النسائية الاستقلالية في الداخل والخارج، وترجمة الأدب النسائي المغربي في إطار دعمه ونشره.
حميدة الصائغ.. زوجة عباس الجيراري ورفيقته في درب العلم
في مكناس، تميزت العديد من العائلات بإقبالها على العلم على غرار عائلات مكناسية وازنة كالصائغ والتوزاني والعلمي والسنتيسي والصافي والعثماني وغيرهم من الأهالي الذين اختاروا العلم مسارا لهم.
حميدة هي بنت المرحوم الحاج عبد المالك الصائغ والمرحومة الكبيرة الصائغ. ولدت بمكناس في 20 أبريل 1940م. وهي خريجة حقوق جامعة القاهرة ومحامية سابقة، وتعتبر نموذجا في التفاني في تربية الأولاد «خير معين لي في مباشرة جميع اهتماماتي وما أقوم به من أعمال»، على حد قول زوجها عباس الجيراري.
لذلك كانت حميدة الصائغ ممثلة للعاصمة الإسماعيلية في المحافل العلمية قبل بزوغ عهد الاستقلال، على غرار شقيقتها نفسية الصايغ التي كانت من أوائل المدرسات بالمدرسة العليا للأستاذة في الدار البيضاء.
تابعت حميدة دراستها الجامعية في الرباط، بعدما تزوجت من القامة الفكرية الفذة «عباس الجيراري»، فهي رفيقة دربه وشريكة عمره وأم عياله، بل إن «الحاجة» حميدة، يرجع لها الفضل في تعبيد طريق التألق والنجاح لهذا الهرم الثقافي الكبير، والعالم المحدث الجليل، والإمام الواعظ الفقيه، عميد الأدب المغربي، لذا كلما كرم عباس إلا وحظيت زوجته حميدة بتكريم لدورها الكبير في صنع شخصيته، وعملت على صنع الهوية الأدبية المغربية في كتاباته التي مزجت بين القيم الفكرية والمقومات الأدبية، التي أفردته بالتميز والتألق والتموقع المستحق، والريادة المستديمة في مجال تخصصه.
ساهمت حميدة من موقعها العلمي وباعتبارها زوجة عباس الجيراري في استكمال بناء صرح «النادي الجيراري»، الذي أسسه والد زوجها عبد الله بن العباس الجيراري عام 1930، وجعله منتدى يلتقي فيه بعد عصر كل جمعة رجال العلم والأدب والوطنية من مغاربة ووافدين. كما حرصت حميدة بعد ارتباطها بعباس على الاهتمام بالمكتبة العباسية، وساهمت في التعريف بالنادي من خلال تقديمها لبعض الكتب أبرزها مؤلف: «من حسنات النوادي الأدبية: النادي الجيراري نموذجا» للدكتور جمال بنسليمان.
أمينة اللوه.. أول امرأة ريفية تحصل على الباكالوريا
ولدت أمينة اللوه في مدينة الحسيمة سنة 1929، نشأت وترعرعت بتطوان، بعد لجوء العائلة إليها قادمة من الحسيمة إبان حملة بوشتى البغدادي، وبها تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي، إلى أن حصلت على البكالوريا. ويقال إنها أول ريفية تبلغ هذه المكانة، خلال فترة زمنية كان من الصعب على الريفيات كسر حجر ثقافي يجعل المرأة أسيرة البيت. فقد كانت أمينة تنتمي لأسرة اللوه الشهيرة بالريف، فأضحت إحدى نساء المنطقة الرائدات في مجال الفكر والأدب والصحافة والتربية الذين كان لاسمهم نصيب من العطاء، وخدمة العمل الأدبي والصحفي والتربوي بالمغرب.
لكن أمينة اللوه اخترقت المجال الفكري أكثر، حين تزوجت بالشاعر إبراهيم الألغي، شقيق العلامة المختار السوسي، وعاصرت كبار المفكرين والأدباء والمصلحين، وأحدثت تأثيرا كبيرا في الأدب المغربي من خلال كتاباتها فنا ونقدا وتأريخا.
بعد حصولها على البكالوريا، ولجت عالم التعليم وحصلت على شهادة التدريس من مدرسة المعلمات بتطوان، ومع بزوغ فجر الاستقلال نالت شهادة الإجازة بكلية الفلسفة والآداب بجامعة مدريد المركزية، ثم شهادة «الماجستير» حول موضوع «الطفولة المغربية»، من نفس الكلية، قبل أن تنتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث حصلت على شهادة في الآداب والعلوم، وانتهى مسارها المهني مكلفة بمهمة بوزارة الثقافة، وعضوا في اللجنة الملكية لإصلاح التعليم.
وكانت من أوائل النساء حصولا على جائزة المغرب للآداب، حيث نالتها سنة 1954، بفضل كتابها القيم «الملكة خناثة قرينة المولى إسماعيل»، في أول ظهور للكتابة النسائية، كما حصلت على وسام العرش من درجة فارس من يدي الملك الراحل الحسن الثاني.
وعن سن يناهز 90 عاما، لبت الفقيدة نداء ربها مخلفة وراءها إرثا فكريا وأدبيا مهما، جزء منه مكتوب وآخر ينتظر الكتابة، توفيت بالتحديد يوم السبت 18 يوليوز 2015 بتطوان، وحضر جنازتها أدباء ومربون وصحفيون وفنانون مسرحيون بحكم كتاباتها لسيناريوهات العديد من الأعمال المسرحية.
فاطمة التهامي.. أول مغربية تحصل على البكالوريا بالجزائر
تعد فاطمة التهامي، المولودة بالدار البيضاء سنة 1919، أول مغربية تحصل على شهادة البكالوريا في الجزائر، قبل أن تنال نفس السبق العلمي حين تخرجت من كليات الطب بالجزائر وفرنسا سنة 1948، وهي التي صالحت المغاربة مع عيادات التوليد، بعد أن أصبحت مولدة في زمن كان الرجل فيه يرفض رفضا قاطعا عرض زوجته على مصحة ويفضل أن تلد على يد «قابلة» مهما كانت الظروف.
تنحدر فاطمة من قبائل أولاد حدو المحيطين بمدينة الدار البيضاء، وتعتبر من أول المغربيات اللواتي سافرن لوحدهن في القطار إلى الجزائر وفرنسا للدراسة في أواسط الأربعينات من القرن العشرين، وكانت الفقيدة من أوائل الفتيات المغربيات اللواتي درسن بالمدرسة الإيطالية بمدينة الدار البيضاء، وأكملت دراستها بكليات الطب بالجزائر العاصمة ثم بالعاصمة الفرنسية باريس، واستقبلها المغفور له الملك محمد الخامس مباشرة بعد عودتها من باريس في بداية سنة 1949، كما حظيت باستقبال حاشد في الدار البيضاء بعد العودة إلى المغرب.
اشتهرت فاطمة التهامي بحسها السياسي، وبأعمالها الجمعوية والخيرية، وكذا بنضالها الوطني، سواء ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، أو ضمن حزب الشورى والاستقلال بعد استقلال المغرب، وعلى الرغم من هذا «الإيتكيت» السياسي، فإن عددا من الاستقلاليين كانوا يعرضون زوجاتهن على هذه المولدة «سرا» من أجل إنهاء مخاضهن.
لبت «الحاجة» داعي ربها بفرنسا يوم الجمعة 6 غشت سنة 2009، عن سن تناهز التسعين سنة، ووري جثمانها الثرى بمقبرة الشهداء، مخلفة وراءها أول مصحة للتوليد في عمق درب السلطان، وتاريخا نضاليا صنفها في خانة الرائدات.
ولأنها ظلت تشكل خطرا على الحزب الحاكم، بسبب مواقفها النضالية وفصاحتها وقدرة الإقناع لديها، فإنها كانت معرضة دوما للمساءلة، ففي حوار سابق مع صحيفة الاتحاد الاشتراكي صرحت فاطمة بأنه خلال عملية الاغتيال التي دبرها أحمد الطويل واستهدفت ثريا الشاوي، تعرضت بدورها للاختطاف في ذلك اليوم، وأنه عندما حضر أحمد الطويل لمتابعة عملية التعذيب، صاح في وجه رجاله بأنهم أخطؤوا في اعتقال فاطمة التهامي، لأنها لم تكن هي المقصودة، وفي مساء ذلك اليوم تم اغتيال ثريا الشاوي.
خديجة المذكورية.. المرأة التي جمعت بين المقاومة والتحصيل العلمي
تنحدر المقاومة المغربية خديجة زهير من قبائل المذاكرة قريبا من الدار البيضاء، لذا حملت لقب المذكورية، علما أن المجاهدة والمناضلة خديجة، من مواليد سنة 1936 بمدينة الدار البيضاء، ولعبت دورا كبيرا في كثير من العمليات الفدائية. وفي بداية الخمسينات كانت حاضرة بقوة ضمن الحركة الوطنية والمقاومة المغربية، بجانب قادة ورجال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، حيث كانت تنقل الأسلحة والمراسلات وتربط الاتصال بين المقاومين، حتى وصفت بـ «مرسول الدم». لكن وضعيتها كطالبة ساعدتها على لعب أدوار طلائعية في الحركة الوطنية، لذا قيل إن المذكورية جمعت بين التفوق الدراسي والنباهة الحركية.
بعد عودة المغفور له محمد الخامس من المنفى رفقة الأسرة الملكية سنة 1955، ترأست الوفد النسائي الذي استقبله محمد الخامس بالقصر الملكي بالرباط، حيث كانت لها الجرأة الكافية لتطالب بمساواة بين المقاومين والمقاومات، بعدما لاحظت وهي في غرفة الانتظار منح الأسبقية للذكور.
عندما تقدمت خديجة للسلام على الملك، افتخرت بأصولها البدوية، وجعلت الجميع يقف على نضال «المذكورية»، حتى أن محمد الخامس ضحك حين علم بحيلها وهي تنقل الأسلحة بين خلايا المقاومة.
شاركت خديجة في انتفاضة 25 يناير 1959 وفي تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وشاركت أيضا في الانفصال عن حزب علال الفاسي، إذ التحقت بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عند تأسيسه في شتنبر 1959، ولعبت دورا أساسيا في تكوين الخلايا الحزبية، كما ساهمت في تأسيس جمعيات المجتمع المدني النسائية للإشراف على محاربة الأمية وتلقين مهن الخياطة والطرز للنساء والفتيات بالأحياء الشعبية، ولأنها كانت مقربة من المهدي بنبركة وشقيقته زهور فقد أسند إليها مهمة ترأس العديد من وفود النساء الاتحاديات اللائي شاركن في المؤتمرات الدولية.
«كانت المرأة الوحيدة بجانب قياديي الحزب على كرسي الاتهام أمام محكمة الرباط سنة 1964، والتي صدرت فيها أحكام بالإعدام وأخرى بسنوات متفرقة وفي حقها صدر حكم بالبراءة، وهي التي أطلقت زغرودة من وسط الجلسة حين علمت ببراءتها»، تقول بعض كتابات المندوبية السامية للمقاومة.
وبعد خروجها من السجن نظمت شبكة فعالة لمساعدة عائلات الضحايا والقيام بزيارات أسبوعية منتظمة إلى السجون لتزويد المناضلين بما يحتاجونه. في سنة 1967، اضطرت لمغادرة المغرب لتمارس عملها النضالي في الخارج. وفي سنة 2000 عادت إلى أرض الوطن بعد أن قررت أن تضع حدا لمنفاها الاختياري.
بعد مضي سنة على رجوعها، انتقلت المجاهدة المذكورية إلى الرفيق الأعلى بعد مرض ألم بها، بمستشفى الحسن الثاني بمدينة أكادير، حيث كانت تتلقى عناية خاصة من طرف عبد الرحمان اليوسفي، قبل أن تلتحق بالرفيق الأعلى يوم 19 شتنبر 2001.
راشيل.. أول يهودية مغربية تعانق «الباك» وتعتكف في مكتبة
أول ظهور للمدارس اليهودية في المغرب كان قبل فرض الحماية، وتحديدا في عهد المولى محمد بن عبد الرحمن، الذي أصدر ظهيرا لحماية اليهود بعد تدخل الرابطة الإسرائيلية عقب إعدام يهوديينِ اتهما بتسميم مندوب الحكومة الإسبانية.
تم إنشاء حوالي 20 مدرسة يهودية بتمويل من الرابطة الإسرائيلية العالمية، ومنظمات يهودية أخرى في الفترة ما بين 1862 إلى 1911. ومما يثير الانتباهَ كون اليهود اعتمدوا مبكرا في مدارسهم اللغة الفَرنسية لغة أساسية. وبلغت نسبة التمدرس عند يهود المغرب 90 في المائة، لأن ولوج المدارس كان إلزاميا، حسب الباحث هاردي.
في مدينة طنجة تعتبر اليهودية المغربية راشيل مويال سباقة لحصد الشهادات، ولدت عام 1933 في مدينة طنجة وسط أسرة يهودية عائدة من إسبانيا، عاشت طفولتها وشبابها بين حي مرشان وشارع باستور.
انخرطت مبكرا في العمل الجمعوي، وأصبحت عضوا في المنظمات الطفولية اليهودية، كما انضمت إلى الرابطة الفرنسية للأدب، ما دفعها للتردد على مكتبة لا تبعد إلا بأمتار عن مقر سكناها، «مكتبة الأعمدة» المعروفة في الوسط الثقافي باسمها الفرنسي «ليكولون». لم تكن هذه المكتبة تقتصر على بيع وتسويق الكتب، بل كانت تمنح لساكنة المدينة فرصة للاستمتاع بالقراءة في هذا الفضاء الثقافي بسعر بسيط. يذكر أهل طنجة حضورها المميز يوم 9 أبريل 1947 لاستقبال المغفور له محمد الخامس، وتحتفظ بصور هذا الحدث الذي تفتخر به في مذكراتها.
حصلت راشيل على البكالوريا في بداية الخمسينات وأصرت على أن تصبح كاتبة، استهوتها الكتب وظلت حريصة على الاعتكاف محطمة أرقاما قياسية في قدرتها على قراءة كتاب كل يوم.
تقول مويال في مذكراتها «سنوات عمري في مكتبة دي كولون»: «مرة في 1973 عبرت الشارع لشراء كتاب سهل القراءة وحاجيات أخرى للاستمتاع بعطلتي على الشاطئ، ولكن دزينة من صناديق الكتب كانت قد وصلت للتو من فرنسا قد أوقفتني. كانت لموزعين عن «دار غاليمار» للنشر، هرعت فورا لمساعدتهم في إنزالها إلى جانب السيدة إيزابيل جيروفي». وتقول الكاتبة الفلسطينية وصال الشيخ في «سيرة مكتبة»، إن راشيل أمسكت خيوط هذا الفضاء الفكري مباشرة بعد تقاعد مالكي المكتبة عائلة جيروفي البلجيكية عام 1976.
أصدرت مويال مذكراتها عام 2010، تضمنت نبض المشهد الفكري في فترة هامة من تاريخ المغرب. تقول مويال: «بعد 25 عاما مضت سريعا على وجودي في المكتبة، اكتشفت السعادة النادرة التي لبت عطشي في إيجاد التفسيرات الممكنة للأشياء واكتساب المعرفة».
راشيل في مذكراتها: «من بين أولئك الذين حصل لي الشرف بزيارتهم، كان أحمد بلافريج الذي تصفح المجلات والهندسة المعمارية للمكتبة، وكان برفقته المقاوم الكبير عبد الكبير الفاسي. قال لي: «الله وحده يعلم أن ما قمت به كان بهدف أن تبقى طنجة حالة خاصة ومتميزة، وفي الآن ذاته جزءا لا يتجزأ من المغرب».
حطمت المكتبة رقما قياسيا في المبيعات حين عرضت للبيع مذكرات الملك الحسن الثاني «التحدي»، كما شهد هذا الفضاء حفلات توقيع أشهر المذكرات خاصة للأدباء الذين عاشوا أو عبروا المدينة. «استقبلت في المكتبة أيضا أربعة ممن فازوا بجائزة غونكور: أمين معلوف، ديدييه فان كوليرت وفرانسوا وييرجونس، وامرأتين أكاديميتين هما: مارغريت يورسنار، وآسيا جبار»، كما استقبلت المكتبة الكاتب والموسيقي الأمريكي بول بولز.
تقاعدت مويال من خدمتها عام 1998، ففقدت المكتبة بريقها وكادت أن تتحول إلى مخبزة، لولا مبادرة رجل الأعمال الفرنسي بيير بيرجي الذي أنقذها باعتبارها مشروعا إنسانيا، فعادت الحياة إلى الرفوف في 27 يناير 2020 ثم توفيت مويال وعرفت جنازتها أكبر حضور للأدباء.