الجملة العصبية المركزية
يقول الخالق العليم: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
إن القلب المعني به هنا هو الدماغ مركز التفكير في الإنسان، وهذا الجهاز هو موضع بحثنا الآن، فما هو تركيبه يا ترى؟ وما هي مكوناته وعمله الفيزيولوجي؟ وما هي أسراره المحيرة التي لم يكشف النقاب إلا عن القليل منها؟ لنسمع إلى الطب وهو يحدثنا عن بعض هذه الأسرار؟ يعتبر الدماغ بالنسبة إلى الجسم بمثابة الحكومة العاقلة العالمة المخلصة التي تتحكم في كل الجسم على الإطلاق تحكما مطلقا، ويعتبر الجسم بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة، وتتكون الجملة العصبية من اجتماع عدة عناصر تتعاون في ما بين بعضها البعض، كما أنها تتعاون من جهة أخرى مع باقي غدد الجسم وأخلاطه. وحتى نأخذ فكرة مبدئية عن الأمور نقول إن الجملة العصبية في الإنسان هي أهم جزء في البدن، حيث تمثل قيادة الجسم من الناحية المادية والفكرية، وهي تتكون من المخ والمخيخ والجذع الدماغي، الذي يتكون بدوره من ثلاث قطع هي الساق المخية وهي مزدوجة والحدبة الحلقية وتسمى جسر فارول أيضا نسبة إلى مكتشفها، وثالثها وهي البصلة، وهناك النخاع الشوكي وهو موجود في قناة عظمية تحفظه من كافة الجوانب، وتتفرع من النخاع أعصاب عديدة تسري في الجسم كسريان أسلاك البرق والهاتف. وهكذا ترى أن عناصر الجملة العصبية هي سبعة؛ وهي تمثل مركز القيادة الذي يتلقى الأخبار ويرسل الأوامر، ولكن كيف يتم هذا الأمر؟ إن هذا كله سنتعرض له بالتفصيل بعد قليل، ولنبدأ بأبسط الأشياء حتى نصل إلى الأشياء المعقدة.
الخلية العصبية (النورون Neuron):
الشيء الأول الذي نريد أن نفهمه هو السؤال التالي: ما هي الأعصاب؟ يقول الطب إن الحجر الأساسي أو اللبنة الأساسية في تكوين الجهاز العصبي هو العصبون أو الخلية العصبية (النورون)، أي كباقي الأجهزة التي تشكل الكائن الحي الراقي، ولكن تختلف الخلية العصبية عن باقي خلايا الجسم بمميزات هامة وعظيمة هي التي جعلت هذه الخلايا تتمتع بمركز القيادة، بينما تعتبر باقي الخلايا تحت حكم الأولى الخلية العصبية.
مقر الإدراك
تمتاز الخلية العصبية بشكلها الساحر المعقد والذي يشبه الأخطبوط بأرجله، أو الشجرة كثيفة الأغصان، التي لا تحمل أوراقا، حيث إن الخلية العصبية تتخذ من ناحية شكلها الجسمي شكلا كرويا أو مغزليا أو نجميا أو بيضويا، ومن أطراف هذا الجسم تخرج استطالات كأغصان الأشجار، ومن أحد الأطراف يخرج ما يشبه جذع الشجرة، أي محور غليظ طويل، ولقد سميت الأغصان أو الاستطالات بالاستطالات الهيولية، وسمي الجذع المحور الأسطواني.
والسؤال الذي يهمنا في هذا الصدد هو: ما هو السر الذي يكمن في هذه الخلية حتى تكون مقرا للإدراك والتفكير والمحاكمة والتصور والخيال والإبداع والذكاء والإرادة والشخصية، وهي خلية كباقي خلايا الجسم، تتغذى بالمواد نفسها، وتتفاعل كما تتفاعل باقي الخلايا، ولها التركيب الداخلي نفسه، أي هيولي خلوية ونواة وكروموسومات؟ فأي سر عجيب تحتويه هذه الخلية السميعة البصيرة الناطقة المفكرة؟ إن الطب بالطبع لا يجيبنا عن هذا السؤال، ولكن مع المستقبل قد نكشف له أسرارها؟ إن الخلية العصبية لها لون رمادي، ولذا تعطي المناطق التي تقطن فيها اللون الرمادي، وهو ما نشاهده في الطبقة السطحية القشرية الخارجية للمخ والمخيخ، حيث تحتشد الخلايا العصبية بالمليارات، بينما هي في النخاع في الداخل في المركز، أي بعكس توزع الخلايا في المخ، وهي تبلغ في تعدادها رقما خياليا، حيث استطاع العالم (فون إيكونومو) أن يعد خلايا الدماغ بـ14 مليار (ألف مليون) خلية عصبية، (ليرفع الرقم لاحقا إلى مائة مليار! لكل خلية ما لا يقل عن ألف ساق ورجل. وبعضها كما في خلايا المخيخ إلى 200 ألف ما يقفز برقم التشابكات إلى ما فوق الجوجول). ولنتصور الآن ترابط هذه الخلايا كلها دفعة واحدة في العمل، من أجل المحافظة على سلامة الكينونة الإنسانية.
إن هذه الخلايا العصبية تقوم بعمل مدهش فذ، وبشكل متناسق ومتكامل وموحد، حتى أن العالم (جودسون هريك) ألقى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك في دجنبر عام 1957 أراد أن يعطي تشبيها للدماغ فقال: لو أننا جمعنا كل أجهزة العالم من التلفون والتلغراف والرادار والتلفزيون، ثم حاولنا أن نصغر هذه الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة، حتى استطعنا في النهاية وبمجهود جبار غير عادي أن نوصلها إلى مثل حجم الدماغ؛ فإنها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ. وصدق لأن الدماغ بلغ من التعقيد حدا يعجز الدماغ عن فهمه! إن الخلية العصبية لا تعمل بشكل منفرد، بل تتعاون مع باقي الخلايا، والفضل في هذا يعود إلى تمفصل الخلايا مع بعضها البعض (مثل مفاصل الركبة والحوض على نحو أشد أناقة بكثير)، وذلك عن طريق هذه الشبكة الهائلة من الاستطالات الهيولية، حتى لقد وجد أن بعض الخلايا متصلة بما يقرب من 1800 خلية أخرى، بل ويقفز الرقم إلى حد مفزع ففي المخيخ تصل الاستطالات والاتصالات والمفصلة إلى مائتي ألف كما ذكرنا. وهكذا نصل إلى شيئين: (الأول) هو ذلك الترابط الوثيق بين الخلايا العصبية. و(الثاني) هو عدد الممرات التي يمكن أن تنشأ من خلال هذا الترابط الهائل، وخاصة بين مائة مليار خلية عصبية، وبالطبع إن الرقم الناجم عن ذلك لا يمكن قراءته بحال من الأحوال، لأنه يقفز فوق عدد ذرات الكون أجمعين، ليصل إلى ما فوق الجوجول، على ما ذكره (سيد رصاص) في كتابه عن (الدماغ الإنساني)، أي عشرة مرفوعة إلى قوة مائة، في الوقت الذي أحصيت فيه ذرات الكون فبلغت عشرة مرفوعة إلى قوة 83. فهذا واقع الدماغ المحير المعقد.
والخلية العصبية كما قال (جون فايفر) في كتابه القيم عن «العقل البشري» هي عبارة عن سلك حي يولد وينقل نبضات كهربائية سريعة، إنها تحتفظ بنفسها مشحونة وجاهزة للعمل بمساعدة بطارية في داخلها تعمل بواسطة خليط من الأكسجين والسكر وتشحن أوتوماتيكيا وهي تدور، أي إنها ترسل ما يقرب من بضع مئات من النبضات في الثانية، حينما تصل إليها نبضات غامزة من أعضاء الحس أو من خلايا عصبية أخرى.. وتقوم ألياف الاستقبال للخلية الواحدة باتصالات دقيقة بألياف الإرسال لحوالي خمسين خلية عصبية أخرى، وهكذا تنقل الإشارات من خلية إلى أخرى وهي تمر داخل الجهاز العصبي.
ونظرا لتعقد البحث في الجملة العصبية المركزية؛ لذا سوف نحاول أن نأخذ بعض الأفكار المبسطة عن تركيبها وعن عملها من جهة ثانية، والتعقيد يكمن في كلا القسمين، وإن كان في القسم الثاني أشد وأعجب.
داخل الجمجمة
لنحاول أن ندخل إلى الجوف القحفي المغلق حتى نتعرف على بعض الأسرار، ولكن كيف الطريق إلى ذلك؟ لنتسلق أحد الأعصاب الشمية الموزعة بشدة في الأنف، ولكن هذه الملامسة سوف تثير منعكس العطاس الشديد، فيطرح أي غريب يحاول أن يخرش القسم المخاطي من داخل المنخر، ولكن لنحاول أن نخترق الغشاء المخاطي، ثم نتسلق أحد الأعصاب الشمية، ولكن إلى أين؟ يأتي الدليل ليقودنا إلى المتاهات العجيبة، وبينما نحن نسير إذا بالعصب يمر من ثقبة من خلال صفيحة عظيمة، وهذه الصفيحة مثقبة بشدة لمرور باقي ألياف العصب الشمي، هذه الصفيحة تسمى (الصفيحة الغربالية) لأنها تشبه الغربال في منظرها، ثم يصعد العصب الشمي إلى داخل القحف، حيث يتصل بكتلة تشبه البصلة ولذا سميت البصلة الشمية، وبعدها يتخذ الطريق الشمي طريقا معقدا لسنا بصدده الآن ويصعب تعقبه في الدغل المخي. وهنا داخل القحف ماذا نجد؟ كتلة رخوة هشة سريعة التأثر، ولكنها مغلفة بثلاثة أغلفة، وذلك لحماية المخ وباقي عناصر الجملة العصبية. والغشاء الأول بعيد جافي ولذا يسمى (الأم الجافيةDura Matter )، وكأن الغشاء والدة وأم تحوط الجملة العصبية، ولكن من بعد فسميت الأم الجافية. وهناك الطبقة الرقيقة (الحنونة) التي تحيط المخ مباشرة، ولذا سميت (الأم الحنون) وما بين الغشاءين يوجد غشاء نسيج يشبه نسيج العنكبوت ولهذا سمي (الغشاء العنكبوتي Arachnoids) وهو رخو يلتصق بشدة بالأم الجافية، ويتباعد عن الأم الحنون، حتى يترك المجال لسائل يحيط بالجملة العصبية والأجواف الأخرى، حماية للمخ وغيره من الرضوض. وهنا يقف الإنسان متأملا متسائلا عن شدة هشاشة وضعف الجملة العصبية من جهة، وشدة فعاليتها وعظمة تركيبها من جهة أخرى، ولذا أحيطت بكل هذه العناية والتكريم، ولنربط ما بين هذه الأغشية الثلاثة التي تحيط بالدماغ، وما بين الأغشية الثلاثة التي كانت تحيط بالجنين، حينما كان في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث! والدماغ موضوع ضمن صندوق عظمي هو القحف، حيث تشتد سماكته ويغلظ العظم في بعض المناطق الخطرة والتي تتعرض للصدمات أكثر من غيرها كما في الجبهة والقفا، ويرق العظم في المناطق الأخرى التي لا تتعرض للصدمات كما في الصدغين والمغطاة بطبقة كثيفة ثخينة من عضلات المضغ، وداخل هذا الصندوق العظمي يوجد تجاويف وحفر وميازيب بحيث تناسب الفصوص الدماغية تماما؛ فالصندوق في الداخل ليس أملسا، بل فيه البوارز والمنخفضات بشكل يتلاءم مع المحتوى الدماغي، ولذا نجد بروزا مزدوجا في الأمام يناسب الفصوص الدماغية الجبهية والتي يقال إن لها علاقة بتكوين الشخصية (كما جاء في كتاب «الذكاء العاطفي»)، كما أن القفا بارز بحيث يأخذ شكل القص القفوي الدماغي والذي له علاقة وثيقة بالرؤية، وأما البصلة الشمية التي تحدثنا عنها والتي تختص بحاسة الشم عند الإنسان فهي تقع في قاع القحف في منخفض منه بجانب الخط المتوسط، حيث يقوم بجانبها ارتفاع وكأنه عرف الديك ولذا سمي هذا الارتفاع نتوء عرف الديك، وهذا النتوء يتناسب مع الفاصل الفارغ ما بين نصفي كرة الدماغ. وفي مؤخرة قاع الصندوق القحفي توجد فجوة صغيرة هي الثقبة القفوية، والتي تمر منها العناصر العصبية التي تعتبر صلة الوصل ما بين الدماغ والنخاع الشوكي، التي ذكرناها في ما سبق، وهي الساقان المخيتان والحدبة الحلقية أو جسر فارو وأخيرا البصلة السيسائية، والمجموع العام يسمى الجذع الدماغي. أما المخيخ فيسكن منطقة تقع تحت المخ مباشرة، حيث يفصل عن المخ بما يشبه الخيمة، ولذا سمي هذا الفاصل الخيمة المخيخية.
وأما النخاع الشوكي وطوله 43 سنتيمترا فهو يسكن تجويفا عظيما محميا من كافة الأطراف بالفقرات العظمية، وهي 7 فقرات في منطقة الرقبة، و12 فقرة في منطقة الظهر، و5 فقرات في منطقة القطن، و5 فقرات في منطقة العجز وهي ملتحمة ببعض، وأخيرا هناك عدة فقرات تشكل العصعص أو العجز النهائي أو (عجب الذنب) الذي تكلم عنه الحديث أن الإنسان يبعث منه.
الصحن الطائر
لو نظرنا في تكوين الفقرات وشكلها، لأخذنا العجب كل مأخذ؛ فهي أشبه ما تكون بالصحن الطائر. وإن كانت تختلف اختلافا طفيفا من مكان لآخر، بحيث تتناسب مع المنطقة التي يمر منها النخاع؛ فهي بالخلف ممتدة بنتوء يسمى النتوء الشوكي، حيث يحمي النخاع من الخلف، مع صفيحات أخرى تتمفصل مع النتوء وتتمادى به وهي الصفيحات الفقرية، وفي الأمام يوجد جسم منتفخ هو جسم الفقرة، وفي الجوانب توجد نتوءات معترضة للحماية الجانبية، وبين كل هذه العناصر ترقد الثقبة النخاعية التي تحوي النخاع الشوكي، والذي يبلغ قطره سنتيمتر واحد، وفي داخله قناة تسمى القناة المركزية، حيث تحوي جدرانها خلايا تفرز السائل الدماغي الشوكي، وتتمادى هذه القناة المركزية في الأعلى حيث تنفتح على منطقة تسمى البطن الرابع، وهي منطقة مهمة جدا من الوجهة التشريحية والفيزيولوجية، وهي كائنة في البصلة السيسائية، وفيها مركز هام يسمى مركز الحياة، وهو في حقيقته المركز المهيمن على الحركات التنفسية، ولذا فإن تخريبه يؤدي إلى انقطاع المركز القائد الذي ينظم الحركات التنفسية.