شوف تشوف

الرأي

الجانب المظلم من الهجرة

رئيس وزراء المجر في سبتمبر من عام 2015م أصبح بطلا قوميا حين خاطب المجريين أنه بلد مسيحي ولا يرحب بالهاربين السوريين ألوفا حذر الموت من بشار الكيماوي، وما يريده الزاحفون الهاربون من بشار البراميلي ليس المكث بينهم بل السماح لهم بالعبور؛ فهم لا يريدون أرضه أكثر من معبر إلى أرض الحرية الدينية ألمانيا وفرنسا وشمال أوربا التي أنارت كل القارة خارج الفكر الكنسي.
تجربتي أنا من ألمانيا كانت مريرة. كلمات أيها الأجنبي غادر أرضنا (Auslaender RAUS) التي كنا نقرؤها في كل زاوية وصخرة، وعلى كل جدار، في رق منشور وكتاب مسطور، جعلتني أحك رأسي طويلا قبل التفكير في هذه الأرض، التي أخرجت القرن النازي يوما ومعسكرات الاعتقال، ومن أرضها اشتعلت الحروب القومية والدينية والعالمية، وتركت بصماتها على الضمير خوفا وكراهية للأجنبي والآخر المختلف.
ثم جاءني الانشقاق الأعظم في رحلتي للشرق الأوسط لأكتشف أنها وجه ثان لألمانيا ولو أننا ننطق نفس اللسان فقررت القفز عبر الأطلنطي وهكذا حملت عائلتي كما تفعل القطة مع أطفالها. قلت في نفسي علي الانتساب إلى مجتمعات تتجه نحو المستقبل. مجتمعات فيها القانون والنظام (Law&Order) وهكذا أصبحت كندي الجنسية ولم أندم عليها سوى أنها أعطتني تقريبا كل شيء باستثناء العمل فكان علي أن أتصدع بين قارتين وأقفز في تحصيل رزقي على امتداد نصف الكرة الأرضية.
إنها تجربة ثرة يجب أن أخصص لها قسما من ذكرياتي الشخصية موعظة للأجيال وتأريخا للحقبة المضطربة التي يعيش فيها كل الجنس البشري وليس الشرق الأوسط وحده.
الهجرة إلى كندا: فكرت في الهجرة إلى كندا منذ عشرين سنة، واجتمعت برجل سمين إلى حد الانفجار من (تجار الترحيل) إيطالي محشو في بنطال يكاد يتمزق من شحمه، كان ينظر إلي مثل الذئب يتأمل حملا سمينا، أول كلمة قالها لي أنت طبيب نعوذ بالله منك. قلت له ما الخبر؟ فقال: أنتم الأطباء لا مرحبا بكم. لم أصدق أذني وأنا الذي حصلت الاختصاص الألماني. قال نعم، مهنتان ملعونتان في الهجرة إلى كندا؛ الطيارون والأطباء!
وهكذا بدأنا في رحلة الدياسبورا، فاجتمعت بمحامية رابني أمرها، وقبلها لص من (لبنان)، جلس ليملأ أوراقا في ساعة ونصف، فأخذ مني ألف ونصف ألف من الدولارات الكندية البنية ذوات المائة، ما يزيد عن خمسة آلاف ريال، أما المحامية فعرفت لاحقا أنها يهودية مغربية، قذفتني إلى ثلوج مانيتوبا، بكلفة 12 ألف دولار، ونحن نستجير بالله من البعث إلى يوم البعث.
نحن من هاجر وغامر نعيش نفسيا في وضع لا نحسد عليه. الكثير يعمل في الشرق ويرسل الأموال إلى عائلته لتعيش بكرامة.
راسلني أخ فلسطيني محتار بين العمل في الخليج وعائلته التي تعيش في كندا، يضخ لها الأموال فينتفخ النظام الكندي قوة فوق قوته. راسلني يقول إنه محتار بين أن يلحق بعائلته، أو أن يبقى في الخليج، ومصير الرجل يشبه مصير عشرات الآلاف من عرب الدياسبورا، الذين يكدحون في الشرق، ويحولون عصارة جهدهم إلى كندا، ليس قرشا بقرش بل أربعة قروش بقرش، بعد أن أصبح الدولار الكندي أغلى من الدولار الأمريكي، مع إفلاس أمريكا المتواصل.
من أخذ عشرة آلاف ريال في السعودية، يتبخر مبلغه بقوة ساحر شرير إلى ربع قيمته (وفي المغرب إلى الثمن)، ولا أعرف لماذا كان الدولار الأمريكي أربع ريالات تقريبا؟؟ فهو لغز أنا عاجز عن فهمه.
بدأ نزوح العرب الجماعي باتجاه جنة كندا، أملاً بعيش كريم وأمان من المخابرات.
أتذكر من ليبيا القذافي (المقذوف) الطبيب الحشوش الفلسطيني في ليبيا كانت أمنيته مع الممرضات البلغاريات في محنته أن يصبح واحدا منهم فصار.
حين قذفتني المحامية اليهودية إلى مانيتوبا وأنا في رحلة البحث عن الهجرة إلى كندا أذكر أنني كنت في الفندق يومها والنهار صاح مشرق؛ فلم أصدق أن درجة الحرارة في الخارج 37 تحت الصفر، وقلت الشمس سوف تدفئني! فلما مشيت في الطريق كنت في طريقي لأن أصبح آيس كريم؟؟
في مونتريال حين تصبح درجة الحرارة 15 تحت الصفر يهنيء الناس بعضهم بعضا لأن الجو ربيعي.
في شتاء 2006 كنت هناك؛ فعرفت معنى الكآبة، وأنا رجل لا أكتئب، لأن الحياة هناك حبس متواصل، من (مول إلى مول Mall) فلا يمكن أن تمشي في طريق، أو تهنأ في مكان، من شدة البرد الحارق الصاعق القاتل، أما آذاني وأنفي وشفتاي فقد احترقت كلها، والناس تمشي للخلف بدل الأمام؟ أي والله من شدة البرد، فإذا اجتمع الصقيع مع هواء القطب الشمالي، فأبشر بطول سلامة يا مَربع.
في كندا فهمت قوله تعالى (فيها صر فاحترقت)، وليس على الإنسان إلا أن يمشي في المحلات المغلقة، والسؤال الذي تبادر إلى ذهني أي إنسان لئيم خطر في باله أن يهاجر إلى جهنم هذه وكيف عمروها؟؟
في يوم نزلت في نزل مغلق، بأشد من علبة حديد، ولكنني ظننت نفسي في الثلاجة، فاستنجدت بصاحب النزل (هدون أرمز Haddon Arms) فعرف السبب، وقام بوضع اللصاق على كل الزوايا والفتحات فتحولت الغرفة إلى علبة بلاستيك محكمة الإغلاق.
كان الشعور الذي تسلط علي يومها أن هذا البلد يدفع فيه الإنسان الدولار حتى لو عطس؟؟ والشيء الوحيد الذي ليس فيه دفع دولار تنفس الهواء فقط لا غير؟؟
وأما الضريبة والبخشيش (يسمونه تابس Taps)؛ فأمر يدعو للمرض، فتذهل حين ترى الوجبة البسيطة بخمسين دولارا، فإذا جاءت الفاتورة أصبحت ثمانين بسحر ساحر فلا بد من دفع الضريبة، ولا بد من «بخششة» الجرسون بـ 15 في المائة من قيمة الوجبة، ونحن هنا يركض فينا العامل البنغالي، ويأمل في بخشيش ريال فلا يصل إليه!
وفي ربيع 2007م كنت هناك، فدفعت أجور تذاكر غالية في رحلة إلى أقصى الأرض، في أيام تعلل الصحيح، وتسقم المعافى، مع انقلاب النهار إلى ليل، فكنا نملأ لتر البنزين بخمس ريالات وعندنا بنصف ريال.
والحاصل بلادنا جميلة، وحياتنا رخيصة، ومناخنا بديع، ولكنه شعور الخوف من المستقبل.
ومع أننا نصلي بجنب بعضنا ولكن قلوبنا ليست بجنب بعض، وهذا السبب هو الذي يجعل كندا تمتص الناس بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد.
والحاصل فكندا بلد من لا بلد له، بشرط حزمة ممتازة من الدولارات، أكثر من حزم البقدونس والكزبرة، فتنفع طالبا خلفه أب ممتلئ الجيب، ومتقاعد متهالك يحسب الغيب، يعيش على راتب ينقذه من المسغبة.
أما الشباب فلا عمل لهم، وإذا عمل فمن طبقات العمال، وعائلتي هناك انحدر مستوى عيشها من عائلة طبيب إلى عائلة سائق شاحنات، تحسب قيمة كيلو الطماطم، ووليمة للجيران والأصدقاء تحتاج ميزانية.
أما الضمانات الطبية فهي أبشع من قصة أشعب، بعناية متردية، ووضع متخلف لا يكاد يصدق الإنسان، وحين يذهب الإنسان للإسعاف فمن يصنفه ممرضة، ومن يعالجه طبيب مقيم؟ بعد انتظار عشر ساعات، وهم يعترفون بهذا وينتظرون الفرج.
أما الحالات الباردة أو التي يصنفونها باردة؛ فعلى المرء الانتظار لحين المقبرة، وروت لي سيدة عانت من صدرها فأعطوها موعدا بعد ثمانية أشهر، كما يقول المثل «عيش يا كديش حتى يطلع الحشيش».
أما شوارع مونتريال فلا تخلو من الحفر والنقر، لا يكاد المرء يخرج من حفرة إلا هوى إلى غيرها، بسبب تباين درجات الحرارة بين الصيف والشتاء فهم في حيرة من أمرهم كيف سيجدون الخلطة الممتازة للحفاظ على سلامة الشوارع؟
فإلى أين المفر؟؟ فلا الغرب يسعدنا، ولا الشرق يعجبنا، فنحن نفسيا في الأرض التي لا اسم لها؟؟
هذا هو قسم من الجانب المظلم في كندا مثل سطح القمر، قسم يلتمع وقسم فاحم أسود. لذا كان من الضروري للكاتب والمفكر أن يسلط الضوء على ما خفي فالوجه اللامع يعرفه الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى