الجابري: «وزير داخلية أول حكومة بعد الاستقلال يستقيل ويطالب بإلغاء جميع الأحزاب»
خامسا: خطأ في الحساب.. لا كعمليات، بل كتوقع للممكنات!
لكن العنصر الذي يبدو أن اللجنة التنفيذية لم تدخله في حساباتها هو احتمال تغير علاقات الحزب مع «القصر» بتدخل «الأطراف الأخرى». لقد كان من بين هذه «الأطراف» عناصر كانت في جهاز المحزن تابعة لما كان قد تبقى من سلطة إسمية للسلطان على عهد الحماية. وعندما قررت فرنسا عزل محمد الخامس، الملك الشرعي، وتنصيب شخص آخر مكانه اختاروه ليكون طوع أيديهم، وجد رجال المخزن، في الحكومة الصورية أنفسهم أمام اختيار: إما السير مع سلطات الحماية ومباركة خطتها وقبول تبنيها وتنفيذها، وكان هذا هو موقف الأغلبية الساحقة من «رجال المخزن» من أعلاه إلى أدناه، وإما إبداء نوع من عدم الرضى على المس بالملك الشرعي، تراوح بين الاستقالة من المنصب وبين الوقوف موقفا سلبيا من خطة سلطات الحماية. هكذا برزت شخصيات على مسرح الأحداث وصفت بـ «الوطنيين المعتدلين» حينا وبـ«المستقلين» حينا آخر. من هؤلاء مبارك البكاي والفاطمي بنسليمان والحسن اليوسي ومحمد الرشيد ملين وأحمد رضا كديرة، وأحمد الزغاري..إلخ. لقد عبر هؤلاء عن ولائهم لمحمد الخامس، وكان منهم من كان على اتصال به قبل المحنة وآخرون ارتبطوا به خلال فترة المنفى.
هؤلاء إذا هم الذين برزوا على خشبة المسرح كـ«قيادة وطنية» للقوة الثالثة، عند عودة محمد الخامس والشروع في مشاورات تأليف حكومة ائتلافية. وبقبول اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إشراك هذه «الأطراف الأخرى» في الحكومة وإسناد رئاستها والمناصب الحساسة إليها تكون أهملت أو أغفلت إمكانية أن يرتبط هؤلاء مع القصر، ليس ضد سلطات الحماية هذه المرة، بل ضد سلطة حزب الاستقلال المحتملة. وسيكون ذلك مدخلا إلى القيام بدورهم التاريخي، كـ«قوة ثالثة» تفضل بين القوى الشعبية التي كان حزب الاستقلال يمثلها، وبين الملك الذي كان هذا الحزب قد جند الشعب وراءه، كرمز للوطنية والنضال من أجل الاستقلال.
هل غابت هذه «الإمكانية»، التي سرعان ما أصبحت حقيقة ملموسة، عن أنظار اللجنة التنفيذية؟
يمكن القول استنادا إلى خطاب أعضاء في اللجنة التنفيذية، وخاصة المهدي وعبد الرحيم أن الأمر يتعلق فعلا بخطأ في الحساب، لا كعمليات، بل كوسيلة لاستكشاف الممكنات!
وهذا ما يتبين من تأكيد أعضاء اللجنة التنفيذية هؤلاء، مرارا، على «الحلف الوطني» الذي يربط محمد الخامس بالحركة الوطنية، الشيء الذي يعني أن تأجيل إعادة هيكلة «نظام حكومة المغرب»، كما ورثه من الحماية كانت تبرره في أنفسهم الثقة التامة في محمد الخامس وفي وعوده المتكررة في كثير من خطبه التي كتبها، أو شارك في كتابتها أعضاء من القيادة الحزبية. والشيء الذي أغفلته اللجنة التنفيذية فعلا هو أن رئيس الدولة عندما يكون هو «الكل في الكل»، يكون بشرا كجميع الناس، يقع تحت تأثير الأقارب والحاشية و«الناصحين» و«المخلصين» الجدد، إلى آخر القائمة، تماما كما كان الشأن في حزب الاستقلال نفسه الذي حال فيه هذا النوع من العلاقات العائلية الحميمية التي كانت تمنع قيادته من عقد مؤتمر لانتخاب قيادة جديدة تكون أكثر تعبيرا عن التطور الذي عرفه الحزب منذ 1944. إن جنوح قيادة الحزب إلى تأجيل الديمقراطية داخله هو الذي أملى تأجيلها على صعيد المجتمع والدولة. هنا يصدق المثل القائل: «على نفسها جنت براقش».
سادسا: حكومة لا يجد حزب الاستقلال فيها نفسه!
ومهما كان الأمر فقد شق المسلسل المنبعث من إيكس ليبان طريقه. وهكذا فبعد خمسة أيام فقط من «المؤتمر الاستثنائي»، أي في 7 ديسمبر 1955، أعلن عن تأسيس الحكومة الأولى في عهد الاستقلال. وكانت التشكيلة كما يلي:
المستقلون: 7 وزراء، وهم: البكاي رئيسا، الزغاري نائبا للرئيس، أحمد رضا كديرة وزير دولة (عين في الدفاع عندما أنشئت هذه الوزارة (أبريل 1956). القائد الحسن اليوسي وزير الداخلية (خلفه إدريس المحمدي كوزير بالنيابة (مايو 1956)، الدكتور عبد المالك فرج وزير الصحة، الدكتور ليون بن زاكين من اليهود المغاربة، عين وزيرا للبريد عندما أنشئت هذه الوزارة (26 ديسمبر 1955)، ثم أضيف محمد الرشيد ملين وزيرا للوظيفة العمومية عندما أنشئت هذه الوزارة (أبريل 1956).
حزب الشورى والاستقلال: 6 وزراء، وهم: عبد الهادي بوطالب وزير الشغل، محمد الشرقاوي وزير دولة، عبد القادر بنجلون وزير المالية، التهامي الوزاني وزير الصناعة والمعادن، محمد بن بوشعيب وزير السكنى، أحمد بنسودة وزير الشبيبة والرياضة.
حزب الاستقلال: 9 وزراء وهم: عبد الرحيم بوعبيد وإدريس المحمدي (وزيران للدولة مكلفان بالمفاوضات مع فرنسا)، عبد الكريم بنجلون وزير العدل، المختار السوسي وزير الأوقاف، أحمد اليزيدي وزير التجارة والصناعة، منصور النجاعي وزير الفلاحة، محمد الدويري في الأشغال العمومية، عبد الله إبراهيم في الأنباء، محمد الفاسي وزير للتعليم. ثم أضيف بلا فريج في الخارجية عندما أنشئت هذه الوزارة (أبريل 1956).
حكومة لا يجد حزب الاستقلال نفسه فيها، لا وزنه في الأوساط الشعبية ولا كفاءة أطره، ولا نضاله وتضحياته ولا تقديسه لشخص محمد الخامس. وأكثر من ذلك لم يكن الوزراء الذين عينوا من حزب الاستقلال يمثلون القوى المكونة لهذا الحزب: لا وجود لمن ترى فيه المقاومة ممثلا لها ولا النقابات من يمكن أن يحسب عليها. نعم كانت لعبد الله إبراهيم علاقات مع رجال من المقاومة والنقابات ولكنه ككاتب للدولة في الأنباء ربما لا يمثل حتى منزلته كأحد مثقفي حزب الاستقلال ومناضليه في مراكش والجنوب. المهم أن رئيس الحكومة لم يكن من حزب الاستقلال وأن الكولونيل البكاي هو الذي أمضى وثيقة استقلال المغرب (2 مارس 1956).
لم يكن من شأن هذه التركيبة الحكومية، إذن، أن تخفف من الأزمة الداخلية في حزب الاستقلال التي كانت تعبر عن نفسها في تصريحات تصدر عن أعضاء في القيادة الحزبية، متباينة وأحيانا متناقضة ومتنافية، خصوصا منها تصريحات الزعيم علال التي كانت تتصف بالمعارضة، تارة للضغط على الفرنسيين وتارة على اللجنة التنفيذية نفسها، مما كان يبعث البلبلة في صفوف الحزب.
سابعا: المطالبة بإلغاء الأحزاب ومحاولة اغتيال علال الفاسي
لم تمر سوى ستة أشهر على هذه الحكومة حتى انفجرت التناقضات بين وزراء حزب الاستقلال ووزراء «القوة الثالثة». وكان من مظاهر هذا الانفجار صدامات وقعت بين فروع الحزب وممثلي الداخلية الذين كان بعضهم ممن بقي في الإدارة من عهد الحماية، وقد أدى ذلك إلى محاربة أنشطة الحزب في بعض النواحي، مما جعل صحافة الحزب تنتقد تصرفات الداخلية. وقد اتخذ هذا الانفجار مجرى خطيرا حينما زج القائد السابق الحسن اليوسي وزير الداخلية بنفسه في هذا الصراع مما أظهره كمتزعم لتيار «قبلي» مناهض لحزب الاستقلال. وقد قام، وهو وزير للداخلية، بتحركات في بعض العمالات والأقاليم يخطب في تجمعات جماهيرية منتقدا حزب الاستقلال. وقد احتج عليه عبد الله إبراهيم وزير الأنباء وانتقده لكونه هاجم حزب الاستقلال الشيء الذي يخل بالتضامن الحكومي. وعلى إثر حوادث جرت في مراكش في هذا السياق قدم اليوسي استقالته وعين إدريس المحمدي (محسوب على حزب الاستقلال) مكانه. واستمر اليوسي في حملته على حزب الاستقلال فصرح لجريدة الرأي العام لسان حزب الشورى (يوم 27 يونيو 1956) قائلا: «إن الطريقة الوحيدة لتوحيد المغرب تكمن في إلغاء جميع الأحزاب السياسية والتكتل وراء محمد الخامس». وفي غشت جمع اليوسي عددا كبيرا من زعماء قبائل الأطلس المتوسط وهاجم حزب الاستقلال وطالب الجميع بالالتفاف وراء جلالة الملك، ونقل عنه أنه قال في خطاب له: إن هذه الأحزاب تنسى أن أغلبية سكان المغرب من البادية وأن أمجاده صنعها أهل البادية، وأنه ليس من مصلحة الشعب أن توكل جميع المسؤوليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى جماعة تتجاهل القبائل والبادية. وفي سبتمبر من السنة نفسها عقد اجتماعا ببني ملال وقصبة تادلة ردد فيه نفس الشيء. وحينها اكتشف البوليس مؤامرة اشترك فيها موظفون فرنسيون قاموا بنشاط دعائي بين القبائل ضد حزب الاستقلال. (ستتأكد علاقة اليوسي بالضباط الفرنسيين محاكمة عدي أوبيهي).
ثامنا: المطالبة بحكومة منسجمة
وأمام هذه التطورات التي بدا منها واضحا أن مبارك البكاي الذي راهنت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال على «موقفه الشريف» في غشت 1953 عند عزل محمد الخامس، لم يكن يبادل حزب الاستقلال نفس الثقة ولا نفس العواطف، وأنه أكثر من ذلك أخذ يعمل بصورة علنية مع اليوسي كـ «رئيس للقوة الثالثة» التي أصبحت مهمتها الفصل بين محمد الخامس وحزب الاستقلال. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه التطورات إلى ردود فعل سياسية عامة من طرف قيادة حزب الاستقلال ومنظماته تجلت في المعطيات التالية:
ـ مطالبة الشبيبة الاستقلالية التي عقدت مؤتمرها الأول بفاس، في مارس من نفس السنة 1956، بـ «حكومة منسجمة». والمقصود حكومة يرئسها أحد قادة الحزب ويكون أعضاؤها كلهم أو جلهم من الحزب.
ـ عودة علال الفاسي النهائية إلى المغرب (يوليوز 1956)، وتكوين «لجنة سياسية» ضمت 40 عضوا يمثلون التيارين التقدمي والمحافظ في الحزب.
ـ ومن أجل بلورة رؤية تمثل الحزب بمختلف أجنحته وقواه تقرر عقد المجالس الوطنية لكل من الحزب والمقاومة والنقابة، بمناسبة «ثورة الملك والشعب» (20 غشت) وشكلت لجنة لوضع مسودة لمقررات المجالس الثلاثة.