الجابري.. المنجرة والمساري نموذجا
إن المفعول السكوني الذي تخلقه الفترة الفاصلة بين النقطة «أ» والنقطة «ب»، عائد أساسا لعنصر الاعتياد الذي يضمنه الزمن، وهو استثناء يختص به الإنسان بعيدا عن المادة والتفاعلات الكيميائية والميكانيكية. ولهذا فإننا لا نحس غالبا بتلك الفترة الزمنية بين امتلاكنا للشيء وضياعه، بين البداية والنهاية، فعامل الثبات يولّد الاطمئنان، لهذا حين نقتني شيئا طالما أردناه يخفت اهتمامنا به بمجرّد امتلاكه ولا نعي من جديد قيمته إلا لحظة فقدانه، وسواء كان مادة أو إنسانا، فذلك كفيل بتنشيط إدراكنا لأهمّية الشيء أو الشخص..
لكن الغريب حقا هو أن المعادلة عندنا تختلف، فرحيل الكبار عندنا كبقائهم، فحتى مرحلة «البين بين» هنا منعدمة، بل إنك قد لا تعرف إن كان ذلك العظيم حيا أو ميّتا، حتى تفاجئك يوما بيانات لئيمة تذيعها التلفزة والإذاعة في نعيه، بشكل يجعلك تتساءل بحسن نيّة: إن كان هذا الشخص مهمّا حقا، كيف يتصادف أنّ أول مرة ستسمع فيها عنه هي نفسها المرة التي ستسمع فيها عن وفاته؟ فالمؤسف والمخزي أننا في المرات النادرة التي قد نسمع فيها عن أحد العظام الذين بصموا عبورهم، يجب أن يكون ذلك من أجل نعيهم وتوديعهم، فإعلامنا الرّديء ـ وأحب أن أشدّد على هذا الوصف ـ ليس إعلاما راقيا ولا يمكن أن يفلح أحد في إنكار هذه الحقيقة. لا يبت برامج جيدة ولا يتيح لك الملل بذكاء، يعرّفنا فقط بـ «فنانين» جدد كل مرة، يبت ذات أغانيهم المائعة التي تلاحقك حين تركب سيارة الأجرة وتدخل المحلات التجارية، برامجه الحوارية صراخ وشد وجذب، ومسابقاته فيها من الغباء ما يجعلك متيقنا أن الأمر يحتاج قدرات خارقة لا يؤمنها سوى الإعلام المغربي، وحتى الالتفاتات الثقافية الهزيلة غير منتقاة بعناية، فمعظم المحسوبين على المثقفين يبدون أثقل من قنطار حمص وأعقد من وجبة دسمة في أرض تنعدم فيها المشروبات الغازية، مكابرين واستعراضيين مهما أرادوا إيهامنا بعكس ذلك، لا ينسون أبدا وضع رجل فوق رجل، ويهتمّون للتأثير الذي سيتركونه أكثر من اهتمامهم بقيمة ما يقولونه!
أما المثقفون الحقيقيون الذين تحس بأنك ذات محترمة بحضورهم، فإنهم يدفنون أحياء بشكل يجعلك تتساءل بحرقة عن هذه اللعنة التي جعلتك متورطا في وطن تافه يهتم للحمقى والمكدّسين بالعقد ويترك الأسوياء والعظام حتى يرحلوا ليضع تقريرا من خمس دقائق عن حدث يزعم أنه مصاب جلل!
وسيتوجب أن نكون عميانا حتى لا نتّفق على أن تردّي الواقع المجتمعي عائد لأسباب يتصدّرها عزل وغياب المفكر والمثقف عن الصورة، فهو يظل الوقود والمنارة التي تعبّد الطريق أمام الانتكاسات الإنسانية، إذ توجد براديغمات وتصوّرات جديدة للفكر تتماهى مع سيكولوجية الفرد.. وإذ يكون الوحيد المؤهل لذلك بما له من خبرة، يقوم وطننا الحبيب بدفنه مرتين، مرة قبل وفاته ومرة بعد وفاته! إن مجتمعا يتقدّم من دون قيادة حكيمة من مفكّريه هو مجتمع يتقدم نحن الهاوية، مشكوك في أمره ولا نهاية محترمة له!