التفكير خارج الصندوق الجاهز
جاء التكليف الملكي في خطاب العرش، بضرورة إصلاح متزن وعادل لمدونة الأسرة وفق ما تنص عليه الشريعة من أحكام قطعية وما يتطلبه القانون والواقع من حقوق للمرأة يتماشى مع كونيتها، أي إصلاح يراعي الشريعة السماوية ولا يتعارض مع المواثيق الدولية والدستور المغربي، ليعيد الأمل إلى هذا الملف الذي شهد انتظارا طويلا بعد مرور 18 سنة على اعتماد مدونة الأسرة بقانون وخروجها لأول مرة من عباءة الفصل 19.
ويكفي الرجوع للمؤشرات السلبية والتقارير الوطنية السوداء حول وضعية العلاقات الأسرية وأحوال المرأة، للتأكد من ضرورة الإصلاح العاجل لتجنب انهيار مجتمعي، فتكدس عشرات الآلاف من القضايا أمام محاكم الأسرة واستمرار آلاف من حالات زواج القاصرات، وانفجار معدلات العنوسة بشكل مخيف داخل أوساط الشباب وتسجيل أرقام قياسية في قضايا الطلاق والتفكك الأسري والولادة خارج مؤسسة الزواج، كلها مظاهر اجتماعية سلبية تدفع إلى ضرورة التحرك لإعداد مشروع متوازن لمدونة الأسرة لخدمة الأسرة المغربية أولا وحماية حقوق المرأة ثانيا.
هناك، إذن، بالفعل معضلة اجتماعية في استمرار الإشكاليات التي يواجهها قانون الأسرة الحالي وتأثيره على تماسك المجتمع ومستقبله، لكن لماذا لم تنجح المدونة في الوصول إلى قانون أحوال شخصية عادل ينهي كل تلك الأعطاب؟
أولا لأن المدونة، في صيغتها الحالية، لم تجرؤ على تحدي طبيعة العلاقة الثقافية بين النساء والرجال داخل الأسرة، والتي تقوم على «الحق» المطلق للعقلية الذكورية. فقد بدا واضحا أن جذور الثقافة العميقة أقوى من النص والقواعد القانونية.
ثانيا لأن المدونة الحالية لم تجرؤ أيضًا على التعامل بشكل كلي وشامل مع معاناة النساء اللواتي يتحملن النصيب الأكبر من المعاناة الأسرية في ظل الهشاشة الاجتماعية لمعظم نساء المملكة.
ثالثا لأن المدونة كانت محصلة صراع إيديولوجي بين التيارات النسوانية المحافظة التي تريد إعادتنا لعصور غابرة وتيار الحداثية النسائية الذي يتجاهل بيئتنا الاجتماعية والدينية، فخرجت المدونة معطوبة وزادت فترة التطبيق لتؤكد عطبها.
رابعا لأن المدونة ظلت فضاء للحرب السياسية بالوكالة بين أحزاب سياسية همها الوحيد هو تحقيق مكاسب انتخابية وأيديولوجية، ما جعل قضايا الأسرة مجرد ديكور لأهداف سياسية، الأمر الذي غيب المقصد الدستوري.
خامسا، تلكؤ المتدخلين من قضاة ومحامين وعدول، وباقي الفاعلين الآخرين، في إنفاذ أحكام المدونة، وتحقيق الإنصاف والعدل، فضلا عن أن التنزيل القضائي لهذه المدونة شابته الكثير من النواقص التي تتطلب استدراكا قانونيا.
بدون التصدي لهذه الأبعاد الاجتماعية والقانونية، لا يمكن حتى بعد مائة عام أخرى أن نأمل في إصلاح حقيقي في قانون مدونة الأسرة، صحيح أن التصدي لكل ما سبق ليس بالأمر السهل، لأنه سيكون من الصعب جدا التصدي لتأويلات فقهية تحولت إلى عقائد وممارسات ثقافية بلغت درجة كبيرة من القداسة، لكن ليس لنا خيار سوى خلخلة الفكر والممارسة السائدين والتفكير من خارج الصندوق الجاهز.
لقد آن الأوان لاعتماد مدونة أسرة تنطلق من معاناة وخبرات النساء المغربيات، وحقهن في أن تعترف الدولة والقانون –ليس فقط المدونة بل كل القوانين- بهن كمواطنات كاملات الأهلية ويتمتعن عمليا بكل الحقوق والواجبات. فإن لم نستطع اتخاذ موقف قانوني منسجم من السعي للمساواة الفعلية بين النساء، كل النساء، والرجال، فلن يكون هناك قانون للأسرة عادل ومنصف.