عائشة عبد الله تريم
يبدو أن الحرب على غزة أرغمت الإيديولوجيات الغربية مرة أخرى على ممارسة التدمير الذاتي، والانهيار تحت ضغط جيل من الأصوات الشابة المحتجة التي تطالب بالعدالة، وإنهاء الحرب التي استمرت لأكثر من 200 يوم على الأبرياء، وأودت بعدد لا يحصى من الناس دون نهاية تلوح في الأفق.
تجتاح حاليا موجة من الاحتجاجات «المؤيدة لفلسطين» الجامعات في جميع أنحاء أمريكا، تؤدي إلى اعتقال الطلاب وطردهم. ويواجه هؤلاء الطلاب مستقبلا مهددا لمجرد ممارستهم حقهم في الاحتجاج. لقد أيد الغرب تاريخيا فكرة أن الجامعات يجب أن تكون ملاذا آمنا للتعبير عن الذات، ولكننا نشهد الآن مؤسسات جامعية مرموقة مثل كولومبيا وهارفارد تتخذ خطوات لقمع هذه الحرية وإسكات الأصوات المعارضة. بالنسبة إلى الجامعات التي بنيت على قيم تعزز النقاش وتشجع الحوار، فإن قيامها فجأة بتصنيف أي انتقاد لإسرائيل على أنه معاد للسامية هو أمر مخيب للآمال في أحسن الأحوال. إن مساواة الموقف المؤيد للفلسطينيين بمعاداة السامية تشوه القضية من خلال الإشارة إلى كراهية عرقية غير مبررة. ما هذا إلا أسلوب جبان لتجنب النقاش الحقيقي وخنق الحوار الهادف.
تواجه إدارة بايدن انتقادات متزايدة لدعمها إلى ما يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه رد فعل انتقامي غير متناسب، بينما تجاهد من أجل معالجة الاحتجاجات المتصاعدة. تاريخيا، كان الحزب الديمقراطي يحشد الناخبين الشباب ويعتمد على مشاركتهم النشطة لتعزيز قاعدته الانتخابية. ومع ذلك، فإننا نشهد تنازلات متزايدة في موقفه، فقط للدفاع عن سياسات نتنياهو الانتحارية. ويؤكد هذا العناد الجنوني مجددا أن حكومة الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمصالح إسرائيل، وتضعها على ما يبدو فوق مصالح مواطنيها.
ومع اشتداد الصراع في غزة وارتفاع عدد الضحايا، ثمة كارثة إنسانية عظيمة، لكن رغم ذلك قللت الولايات المتحدة من أهمية التقارير التي تتحدث عن مقتل مدنيين، وتجاهلت ادعاءات واسعة النطاق بارتكاب جرائم حرب، وبررت هذه التصرفات بعبارة واحدة: «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها». ويبدو أن هذا التبرير يمنح إسرائيل مجالا فريدا من نوعه في أعمالها العسكرية، وهو امتياز لا يمنح لأي دولة أخرى. مرة تلو الأخرى، يتم التصديق على هذا الحق من خلال يد واحدة مرفوعة بـ«الفيتو» في كل اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وهي اليد الأمريكية.
لقد تضاءلت مصداقية الغرب كسلطة في مجال حقوق الإنسان، وأصبحت الآن شبه معدومة، فقد كلفته الحرب على غزة أكثر من مجرد أسلحة؛ وأعادته مئات السنين إلى الوراء وشوهت صورته القيادية للإنسانية.
لننظر إلى موقف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما خلال احتجاجات الربيع العربي التي أشعلت الشرق الأوسط في عام 2011. فقد أدت هذه الاحتجاجات إلى انهيار العديد من الدول العربية، واندلاع حرب أهلية في سوريا، وصعود تنظيم داعش، والتمرد والحرب الأهلية في العراق، والاضطرابات في مصر، والأزمات في ليبيا واليمن. واعتبرت إدارة أوباما، ونائبه آنذاك جو بايدن، هذه الاحتجاجات علامة على التقدم وولادة الديمقراطية. وفي مصر، انحاز أوباما إلى الشارع وأنهى فجأة تحالفا طويل الأمد مع واحد من أقوى الشركاء في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى إبعاد الولايات المتحدة عن الرئيس حسني مبارك على الفور تقريبا. كان الخطاب يدور حول تعزيز الحرية في جميع أنحاء العالم وتحرير الناس من الديكتاتوريين القمعيين. ومع ذلك، فإن الأحداث التي سبقت يومنا هذا تشير إلى أنها كانت استراتيجية لسياسة «فرق تسد». ولم يستفد العالم العربي من ذلك، وقد لا تتعافى بعض المناطق أبدا من ذلك الربيع المدمر.
بدأ الربيع العربي عندما أشعل البائع المتجول التونسي محمد بوعزيزي النار في نفسه. وصف الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما هذه اللحظة في بيان ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 بأنها ملهمة: «لقد ألهمتنا الاحتجاجات التونسية التي أطاحت بالديكتاتور، لأننا رأينا انعكاسا لقيمنا في تطلعات الرجال والنساء الذين ساروا في الشوارع». ومع ذلك، في أمريكا عام 2024، وفي ظل حكم الحزب نفسه، لا نرى أي إلهام من الطلاب الذين خرجوا إلى الشوارع والجامعات. يبدو أنه لا يتم التعامل مع جميع الاحتجاجات على قدم المساواة، فالاحتجاجات على تراب الوطن لا يتم الترحيب بها ولا التسامح معها.
ومن المهم توخي الحذر عند وصف هذه الاحتجاجات بأنها «مؤيدة للفلسطينيين»، لأننا بهذه التسمية نفقد حقيقتها. هذه الاحتجاجات هي ضد عمليات التطهير العرقي، وهي رفض للأنظمة التي تدعم الاحتلال وصرخة من أجل إنهاء الحروب كطريق نحو السلام. هذه الاحتجاجات في جوهرها الحقيقي مؤيدة للإنسانية، وتتبنى مفهوما عالميا للإنسانية لا تتلاعب به السلطة. إنها احتجاجات ضد النفاق ومن أجل الحق في الحياة.
وإذا كان الخطاب السياسي يعكس الحقيقة، لتم الاحتفاء بهؤلاء الشباب الأمريكيين الشجعان بدلا من طردهم. ومع ذلك، عزاؤنا يكمن في معرفة أن الشباب أدركوا الحقيقة.. وهم اليوم لا يخشون التعبير عنها.
نافذة:
تضاءلت مصداقية الغرب كسلطة في مجال حقوق الإنسان وأصبحت الآن شبه معدومة فقد كلفته الحرب على غزة أكثر من مجرد أسلحة وأعادته مئات السنين إلى الوراء وشوهت صورته القيادية للإنسانية