التاريخ المضاد للأدب
منذ الأزمنة الأولى لاحتكاكنا بالآداب والفلسفة والعلوم الإنسانية في الثانويات، غالبا ما كنا ندرس هذه التخصصات بـ«كليشيهات»، فنتحسر على جاهلية زهير بن أبي سلمى، لأنه مات قبل أن ينطق بـ«الشهادة»، في حين نتعاطف كثيرا مع ابنه «كعب» لأنه أسلم، مع أن المقارنة بين الشاعرين غير جائزة تماما، لكون الأب أشعر من ابنه بالإجماع. والأمر نفسه عندما نصف المتنبي بـ«شاعر الكسب» وابن عربي بـ«شاعر الحلول»، فكانت هذه التصنيفات المدرسية تضيع علينا الكثير من متعة اكتشاف النصوص، والأمر نفسه في الفلسفة، إذ ما تزال تشطيبات القلم الأحمر التي كان يقوم بها مدرس الفلسفة على ما يعتبره «تعبيرا أدبيا»، حاضرة في أذهاننا. فهذا المدرس، الذي ظل إلى آخر يوم في تقاعده، مقتنعا بأن الفلسفي هو العلمي المناقض للأدبي، والذي يرادف عنده ما هو وهمي وغير واقعي، في تماه مدرسي مع الأطروحة المادية. حينها لم يكن أحد يتجرأ على أن يقرأ لابن الفارض وابن عربي لكونهما مجرد «متصوفين».. وبالرغم من أن مياها كثيرة مرت تحت جسر النقد والأدب والفلسفة منذ ذاك الحين، فإن الكثير من مدرسي الأدب والفلسفة والعلوم يتعاملون اليوم بالمنهجية نفسها التي تصور الفكر الإنساني على شكل جزر معزولة، فنجد مثلا أن حيز الابستمولوجيا لا يتعدى صفحة واحدة في أطروحة تنتمي للفيزياء، ونجد حيز الفلسفة لا يتعد بضعة هوامش في أطروحة جامعية تنتمي للنقد الأدبي. وهذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه الفيلسوف الفرنسي الشاب ميشيل أونفري.
يتميز أونفري بمشروعه الفكري والثقافي والإشعاعي، الذي جعل أغلب الدوائر الأكاديمية التابعة للمراكز الجامعية التقليدية، خاصة في مجالات الفلسفة والأدب والتاريخ، تنظر إليه بريبة وتحفظ، لاسيما في أطروحاته عن فلاسفة وأدباء وعلماء وأنساق يحتفظ عنهم عموم المثقفين بأفكار ثابتة ونهائية. ونستطيع أن نلمس هذه الاستثنائية عند أونفري في ثلاثية مثيرة للجدل، هي كتبه التي عنونها بـ: «التاريخ المضاد للفلسفة» و«التاريخ المضاد للآداب» و«الكُراس المدرسي المضاد»، وهي عناوين لكتب صدرت منها بعض الأجزاء، فيما الأجزاء الأخرى في طور الطباعة، وتتميز في مجملها بكونها تعيد النظر جذريا في بعض الأفكار البديهية المتعارف عليها في تاريخ الفلسفة والأدب وتدريسهما معا، من قبيل أن فرويد خلق ثورة في علم النفس، بينما هو، في نظر أونفري، مجرد «شخص مريض نفسيا يخلق أزمات نفسية عند مرضاه دون أن يتوفق في علاجهم»، والشيء نفسه بالنسبة للفيلسوف شوبنهاور، الذي يرى فيه كثيرون فيلسوفا متشائما، بينما هو فيلسوف مفرط في تفاؤله، بل ومعلم لفن التفاؤل، حسب أونفري. والمنهج ذاته الذي اختاره أونفري في مراجعة التاريخ الأكاديمي الذي ينمط الفلاسفة والأنساق الفلسفية في عناوين جامدة، بل وينحاز لفلاسفة بعينهم ويهمش آخرين، استعمله أيضا في إعادة قراءة تاريخ الأدب، محاولا أن يقدم قراءات أخرى للنصوص الأدبية الشهيرة لدانتي وشكسبير وموليير وسيرفانتيس.. لذلك، فأونفري يعلمنا أن نقرأ الشعر بعيدا عما نعرفه عن الشاعر، ونقرأ الفيلسوف بعيدا عن زمانه أو النسق الذي يتعسف المؤرخون ويضعونه فيه.. فعربيا، حتى الآن، مازلنا ندرس الأدب وفق التقسيم التقليدي، الذي يزاوج بين الديني والسياسي، حيث نصنف زهير بن أبي سلمى شاعرا جاهليا، والفرزدق شاعرا أمويا، والمتنبي شاعرا عباسيا، صعودا إلى محمود درويش، الذي نصنفه شاعر «قضية»، مع أن ما تضمنته معلقة ابن أبي سلمى من حكم ودروس، تجعله أعمق وأبلغ من أشعر شعراء ما بعد الإسلام، وقس على ذلك من التصنيفات المدرسية الأخرى التي تتداعى عند أول احتكاك مباشر بالنصوص.. النصوص كما تتحدث عن نفسها وليس كما يصنفها المتعسفون من النقاد بهذه النية أو تلك.