
بقلم: خالص جلبي
السواد الأعظم من الناس لا يعرفون السعادة ولا يمارسونها، وإن تمتعوا بها فللحظات معدودة. ويظن معظم الناس أنهم سيحققونها من خلال تكديس الثروة، والارتفاع في البنيان وتكويم الأحجار، أو في التمتع بالملذات الحسية بدون حدود؛ فيأكلون إلى ما فوق الشبع، ويشربون حتى الانفجار، ويسفحون ماء الحياة إلى حد النضوب والنفاد، ولكنهم يكتشفون أنه لا بالثروة، ولا بالملذات الحسية، ولا بالجاه، وصلوا إلى نعيم السعادة، وشاطئ الأمن، وحديقة النفس المطمئنة.
لم يشموا ريح الجنة بعد، ولا عرفوا هذا العالم الجديد الذي يصل إليه القليلون، ويدخله النادرون، ويتمتع به الخواص. أين السعادة الدائمة التي لا تنفد والكاملة التي لا تنحصر؟
هذا هو السؤال الذي أقض مضاجع الفلاسفة والمفكرين، علماء النفس والمربين. وهو السؤال الذي افتتح به الفيلسوف الهولندي (1) سبينوزا في القرن السابع عشر كتابه القيم (رسالة في تحسين الفكر).
لقد حاول من تعاطى المخدرات والمسكرات الولوج إلى هذا العالم، فضاعوا وضلوا الطريق، فلم يصلوا إلى نعيم السعادة الحقيقي الكامل والدائم، المستمر والنامي، ولا رجعوا إلى دنياهم العادية الأولى، بل أصبحوا هباء منثورا، ووجدوا سرابا خادعا، وتحولوا إلى حطام فوق الحطام.
يتمنى الإنسان – لو كان بالإمكان- أن يحقق السعادة بتناول قرص دواء، أو يصل إلى حالة (النفس المطمئنة) بجرعة شراب، أو أن تشع منه (الحكمة) بدهنة مرهم، أو أن يتسم بـ(العدل) بأكسجين على أنفه، أو أن يتحرر من (الغضب) باستنشاق الرذاذ التنفسي الذي يعالج به الربو الصدري. ولكن هيهات هيهات لما يوعدون!
إن فيض السعادة هو نور داخلي قبل كل شيء، وتحصيل ذاتي، ومعاناة خاصة، وعتبة يصل إليها من مارس الكبد، وقاسى التعب، وذاق لوعة البحث، وصعد الجهد وبدون حدود في صقل مرآة روحه الداخلية، لتتلقى الإشعاع الكوني العظيم.
كان أينشتاين يقول: إن اكتشاف الحقيقة لمرة واحدة لا يكفي، على العكس يجب المحافظة عليها وتجديدها باستمرار، إنها تشبه تمثال الرخام الذي يقف في الصحراء، وهو في حالة خطر دائم من أن يدفن في الرمال. الأيدي الفعالة والنشيطة وحدها التي لا تعرف التعب والملل والتي تنظفه باستمرار، هي التي تحافظ عليه يتألق تحت ضوء الشمس (2). وكذلك هي رحلة البحث عن أعظم كنز في هذا الوجود، غارق في عمق بحر مجهول.
عند منتصف الليل في إحدى مناوباتي المرهقة، أثناء فترة إقامتي الطويلة في ما كان يعرف سابقا بألمانيا الغربية، وضعت رأسي لأتنفس الصعداء ولو للحظات، إلا أن جرس التلفون لم يمهلني، حيث يبدأ موكب السكارى وحوادثهم بالتدفق في مثل هذا الوقت، أي في نهاية حفلة (الكيف) التي تتحول في خاتمة المطاف إلى مشاجرات وجروح علينا معالجتها. هذه المرة كان النداء مستعجلا وملحا وخطرا، فانطلقت كالعاصفة لا ألوي على شيء، أكاد لا أبصر طريقي أمامي، وهناك في قاعة الإسعاف وقع نظري على فتاة في مقتبل العمر، قد غرقت في دمائها، مذبوحة من الوريد إلى الوريد، في الرمق الأخير.
بدأنا ونحن بالكاد نلتقط أنفاسنا، في محاولة سريعة لإنقاذ حياة هذه الصبية، أعصابنا متوترة، ووجوهنا يعلوها الإرهاق وسهر الليالي، المريضة تغتسل في دمها ونحن نستحم في عرقنا! هكذا هي حياة الجراحين -الجنود المجهولون- الذين ينامون على عملية، ويستيقظون على اختلاط، صديقهم الليل والمشرط، وخليلهم الدم والقيح، وأنيسهم خراج يشق وورم يستأصل، نزهاتهم في قاعات العمليات، وسميرهم المرضى وأروقة المستشفيات، قد شابوا قبل المشيب، واستهلكوا قبل الأوان، قد واصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، والويل لهم إن فقدوا مريضا!
عندما أدخلت يدي المغطاة بالقفاز المعقم في عمق العنق تنفست الصعداء، حيث أدركت أن الشرايين السباتية سليمة (3)، وشيئا فشيئا استطعنا السيطرة على النزف، وإنقاذ حياة المريضة، قلت في نفسي بعد انتهاء العملية الجراحية: كانت ليلة مرعبة بحق، ولكن تفاؤلي كان مبكرا، لأنه كان علي أن أتابع الرحلة مع هذه الواقعة وذيولها حتى شعاع الفجر الأول. رن التلفون مع ساعة السحر مرة أخرى، هذه المرة صوت ذكوري أجش خافت يطلب معلومات عن حالة المريضة التي أدخلت إلى المستشفى، ويرفض الإفصاح عن هويته، كان جوابنا: أننا لا نعطي معلومات عن طريق التلفون ولمجهول. وتفاءلت بالنوم بدون جدوى، هذه المرة كان البوليس يطلب أخذ عينة من دم (جثة)، وهو نظام معمول به في الغرب لكثرة الشاربين للخمور الذين يقودون السيارات ويتسببون في حوادث الطرق. نزلنا إلى المستودع البارد، حيث وقع نظري على شاب طويل راقد جثة لا حراك بها! عندها اكتملت صورة تلك الليلة المرعبة، كان هذا الشاب هو الذي ذبح الفتاة، وعندما طارده البوليس أطلق النار على نفسه منتحرا، وكان هو صاحب الصوت المجهول الذي كان يتصل بالتلفون يسأل عن صحة الفتاة المذبوحة.
هذه القصة التي قفزت لذاكرتي الآن ونظائرها كثير من يوميات الجراحين، وهذه قد تحدث في ألمانيا وغيرها، ولكنها (مشعر) ينبئ عن فقدان مبرر الاستمرار في الحياة، وتقديم الاستقالة منها.
نافذة:
فيض السعادة هو نور داخلي قبل كل شيء وتحصيل ذاتي ومعاناة خاصة وعتبة يصل إليها من مارس الكبد وقاسى التعب وذاق لوعة البحث وصعد الجهد وبدون حدود في صقل مرآة روحه الداخلية
المراجع:
- تعتبر كتابات سبينوزا إحدى أهم المحطات العقلية في مسار إنجازات العقل الإنساني، ولم يكتب في حياته القصيرة سوى أربعة كتب، وبكل أسف لم أعثر على ترجمة كاملة لأعماله في اللغة العربية، والفقرة التي أستشهد بها هي من الأصل الألماني Abhandlung ueber die Verbesserung des Verstandes . راجع موسوعة أعماله الكاملة التي نشرتها Felix Meiner Verlag ، ص: 4.
- قالها أينشتاين: جاء في الكتاب الألماني الذي تصدره مؤسسة Roro عن الشخصيات العالمية، تأليف Johannes Wickert، ص: 7.
- الشرايين السباتية وتعرف باللغة الإنجليزية بـ cartoid artery ، وهي شريانان ثخينان على جانبي العنق في العمق، يعتبران أنابيب (مواسير= روبينات) الدم الرئيسية التي تغذي الدماغ، يضاف إليهما شريانان آخران من الخلف يصعدان لتروية الأقسام الخلفية من الدماغ، فيكون المجموع أربعة شرايين، تلتقي جميعها لتشكل حلقة دموية شريانية سباعية الأطراف في قاعدة الجمجمة، وهي المعروفة بمسبع ويليس الشرياني، وبذا يمكن إمداد الدم لأي منطقة مهددة بانقطاع الدم عنها. هذا الكمبيوتر الرهيب داخل جمجمتنا يحترق بانقطاع الأكسجين عنه لمدة خمس دقائق فقط، ويعطب بشكل نهائي لا عودة فيها حتى لو استمر القلب وبقية أعضاء البدن الرئيسية في العمل، وهو المعروف طبيا بموت الدماغ.