رضوان السيد:
لقد كان صعبا عبر العصور على أهل الديانات والاعتقادات والفلسفات، أن يعتبروا التعدد والاعتراف به ضرورة واقعية. وعندما كان جون لوك ورفاقه في القرن السابع عشر يدعون إلى التسامح، فقد كانوا يسعون إلى تشريع ممارسة الاختلاف، وهو بالطبع أقل من التعدد. ومع ذلك فإن التسامح اعتُبر خُلُقاً نبيلا ونبيلا جدا، وسط تشنج الأجواء ونشوب الحروب الدينية، بين البروتستانت والكاثوليك. وعندما كنتُ قبل أيام (في شهر القراءة مثل تلامذتي!) أقرأ كتابا عن الثورة الفرنسية، أدركت أن التعصب باسم الحريات أو الديمقراطية أو الحقوق لا يقل هولا وآثارا.
داستن بورد في كتابه «الإسلام في المجتمعات العلمانية وما بعد العلمانية»، يحمل تلك العلمانيات وما بعدها بعضا من المسؤولية عما نزل بالبيئات الإسلامية من تعصب وانغلاق، وبخاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
وأمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» يُصدر حكما عاما: المسلمون في «العصور الوسطى» كانوا الأكثر تسامحا، والأوروبيون كانوا الأكثر تعصبا، وفي الأزمنة الحديثة حصل ويحصل العكس تماما! ولستُ من أنصار «التأصيل»، سواء للتسامح أو للتشدد، في الإسلام. لكن النصوص القرآنية واضحة في القول بالتعدد الإثني والديني واللغوي والاجتماعي. وهي بالضرورة تدعو إلى التسليم به أو بالتعبير المعاصر: الاعتراف.
وربما كان الأفضل القبول والتصرف على أساس أن التعدد سنة إلهية، كما يشير القرآن. ومن الطبيعي إذا كان التعدد موجودا وواسعا، أن يحدث الأمران: الاختلاف وهو الحد الأدنى، والخلاف وهو السقف الأعلى.
وقد كان الفقهاء منذ القرن الثاني الهجري يقرون «الاختلاف» في ما بينهم، والخلاف مع الآخر الديني والاجتماعي. لكن المتكلمين كانوا أقل تسامحا بكثير مع الذين يختلفون معهم في الاعتقاد والآراء، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم يهودا. إلا أن أستاذنا الراحل «جوزف فان أس»، في كتابه «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة»، يذهب إلى أن تكفير المخالف والبراء منه، بدأ مع النزاعات السياسية في القرن الأول، وصار عقائديا لدى المتكلمين في القرنين الثاني والثالث، بعد أن صارت النزاعات ذكريات بعيدة!
أكثر من المتكلمين والفقهاء كان التأثير عبر العصور لسياسات الدولة وقواعد السياسة فيها. وكثيرا ما قمع رجالات الدولة أو شرطتها العوام الهائجين على أهل الذمة، أو المتشددين بين المذهبيين المتصارعين في ما بينهم على «صحيح الاعتقاد»(!). وما كانت الإدارات السياسية تقصد إلى حفظ الحقوق والأعراف فقط، بل وبالدرجة الأولى إلى حفظ الاستقرار.
ينبغي أن تستعيد الأمور زمامها في العقل والتصرف، بعد هيجان الأصوليات عندنا والهويات لدى الأمم والديانات الأخرى. لقد وقع الاصطلاح على مطلبَي التسامح والتعايش، التسامح باعتبار الاختلاف، والتعايش باعتبار التعدد.
وهذان مطلبا الحد الأوسط من سائر الناس. لكننا نحن المسلمون، وفي رمضان وسائر شهور السنة، ينبغي أن يكون مطلبنا التعارف، وهو مطلب قرآني للمعرفة المتبادلة والتي تنتج أمرين: زوال الجهل بالآخر والخوف منه، والميزة الأخرى إمكان الإفادة والاستفادة مما عندك وعنده، أو الاعتماد المتبادل. لقد حررنا القرآن من الضيق والتعصب وطالبنا بالحد الأعلى: التعارف والتعدد، فلنسر باتجاه هذين الأفقين!