شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

الإنسان الاجتماعي

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

 

تحدثنا عن الطفل الوحشي فيكتور الذي تم التقاطه من غابة (أفيرون)، مما دفع دكتورا فرنسيا هو (كاسبار إيتار) إلى الاهتمام بهذه الظاهرة، وسمى هذا الغلام فيكتور وأراد إعادته إلى الحضيرة الإنسانية، وقام في هذا الصدد بإجراء تجارب واسعة في الحقل الإنساني، خاصة ولم تكن هناك سابقة لهذه الظاهرة، وسجل الدكتور إيتار ملاحظاته في النهاية، حيث استطاع إيصال فيكتور (صبي أفيرون الوحشي) إلى الوقوف بشكل أقرب إلى الانتصاب، ولبس الثياب وشيء من السلوك الإنساني، أما اللغة فقد بدأ يفهم شيئا من اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يستطع نطقها مطلقا، مما أوصل إلى تسجيل هذه الظاهرة المريعة المأساوية وهي: إن الإنسان إذا تم تلقينه اللغة في سنوات عمره الأولى تعلمها، بل وتشبه الدوس (DOS) في الكمبيوتر، أي يمكن تعلم أي لغة أخرى بعد ذلك، وإذا عزل الفرد اجتماعيا خسر تعلم اللغة، بل والقدرة على تعلم أي لغة لاحقة بالكلية وإلى الأبد، وهذا يعني بكلمة ثانية شطب الإنسان من قائمة البعد الاجتماعي.

كتب الدكتور إيتار في سجل ملاحظاته التالي: يأتي الإنسان إلى هذه الكرة الأرضية بدون قوة جسدية وبدون أفكار تولد معه، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الأساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية، ولا يستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة، إلا إذا كان وسط مجتمع، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدا من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاء.

هذه القصة التي تؤكد (بناء) المجتمع للإنسان كي يصبح (إنسانا)، وضرورة نمو الفرد ضمن مجتمع بشكل كامل ونهائي ومطلق وفي الطفولة، وهي حقيقة انتبه إليها ابن خلدون، في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي 779هـ، وبناها على أمرين حيوين (تأمين الغذاء) و(حماية الفرد). والأمر الأول أوضح، لأن رغيف الخبز حتى تتم صناعته يحتاج إلى مسلسل لا ينتهي من الصناعات، حتى يتم إنجازه ويبرز إلى الوجود ليتمتع بأكله الإنسان (حرث الأرض يحتاج إلى محراث مكون من قطعة الحديد والخشبة والحبل والحيوان المستأنس- الحديد يحتاج إلى صناعة الحدادة بالكامل والخشبة تحتاج إلى صناعة نجارة والحبل يحتاج إلى صناعة نسيجية- والحديد يحتاج إلى صناعات جيولوجية لجلب المادة الخام، وهي بدورها تحتاج إلى صناعات متممة وهكذا…).

من هنا نفهم سطحية وسذاجة وعدم واقعية قصص من أمثال (حي بن يقظان)، أو قصة الأطفال في الفيلم الكرتوني (ماوكلي)! وأشد سذاجة منها الأفلام الأمريكية في أفلام طرزان والشمبانزي شيتا التي خلبت لبنا ونحن صغار، وقصة روبنسون كروزو تمثل حالة الإنسان الذي تجاوز التعلم في الطفولة.

وإذا كان المجتمع الإنساني يمثل ضرورة التحول الإنساني، فلماذا نشأت الحرب مثل الخطأ الكروموزومي في جينات الحضارة الأولية منذ لحظة تكونها الأولى مثل مرض الإيدز (السيدا)، الذي ضرب الجنس البشري، ومثله كورونا!

لماذا كانت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تقوم على العنف؟ بل لماذا قامت الدول على أساس العنف، حيث يمثل القانون قوة الإكراه الملزمة، الذي تقوم قوة العنف المادي في النهاية بتنفيذه في حال تطلب الأمر ذلك؟ لماذا كانت علاقات الدول بعضها ببعض تقوم على توازن القوى؟ بل لماذا استفحلت الحرب واعتبرها فون كلاوسفيتز، منظر الحرب الألماني، أنها: استمرار السياسة بوسائل أخرى، من أجل كسر إرادة الخصم وتطويعها؟ بل لماذا انطلق شوط القوة إلى درجة أن امتلك الإنسان في النهاية وقود المجرات والسوبرنوفا القوة النووية؟ لقد شكلت دورات الحرب في التاريخ نظما مريعا مرعبا، كل جولة فيه كانت ألعن وأفظع من التي قبلها، أعنف في وقعها وأشد تدميرا في آثارها!

إن وباء العنف الذي تكلم عنه المفكر السعودي إبراهيم البليهي، في جريدة «الرياض»، في ما أتذكر له ما يبرره، بل إنني أعتبر ما تناوله اختراقا لفضاء معرفي جديد، ولمسا لموضوع هو ربما من المحرمات (الطابو) للبعض. ومن خلال طرحنا المتكرر والمتنوع للفهم الفلسفي لمغزى رمضان البعيد، وتأسيسه لمعنى السلام (سلام هي حتى مطلع الفجر)، فقمة رمضان وروعة تجليه في الليلة التي نزل فيها القرآن يحمل السلام معه إلى الأرض، ولكن لماذا لم يتحقق السلام بعد؟

سوف أحاول رسم بانوراما ذات خمس زوايا لإبقاء الضوء على أعظم تحد يواجه الجنس البشري، والذي إن لم يفلح في إلغائه، فسوف يلغي هو الإنسان! (بيولوجية- أنثروبولوجية- جنسية- سيكولوجية- تكنولوجية).

ولنبدأ بأهمها، أي البيولوجيا المغروسة في كياننا.

الرؤية البيولوجية: يتكون الجهاز العصبي المركزي عند الإنسان من ثلاثة مستويات، الدماغ السفلي ويشترك فيه مع الزواحف، وهي المنطقة التي تنظم البلع والتنفس والعطاس وضربات القلب والتعرق وسواها ومراكز الانفعالات والجنس. والمخيخ الذي يحفظ على الإنسان توازنه وتشترك فيه الطيور، ثم الدماغ العلوي الذي تميز به الإنسان بشكل خاص، ولا تشترك الثدييات العليا معه إلا في قسم ضئيل وغير نوعي، وهكذا فمع أن الغوريلا يزن ثلاثة أضعاف الإنسان، فإن دماغ الغوريلا لا يزن ثلث أصغر دماغ إنساني الذي يصل في المتوسط إلى حوالي 1,5 كلغ (1340 غراما). وتمثل الدوافع البيولوجية وثورات الغضب والانفعال التعبيرات الدماغية السفلية غير المنضبطة بما فيها الشهوة، والعنف هو انقلاب ينقلب مخطط الإنسان بانقلاب الدماغ العلوي ليصبح تحت سيطرة الدماغ السفلي، حيث تضيع الحكمة تحت ضباب الشهوة وإعصار الغضب.

 

نافذة:

هذه القصة التي تؤكد بناء المجتمع للإنسان كي يصبح إنسانا وضرورة نمو الفرد ضمن مجتمع بشكل كامل ونهائي ومطلق وفي الطفولة وهي حقيقة انتبه إليها ابن خلدون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى