الإخوان المسلمون في الميزان (2/2)
مشكل الإخوان المسلمين مع مفهوم الجهاد كان غامضا ومازال، وإن كانوا بدؤوا يدركون مخاطر العنف؛ فلم يلجؤوا إليه حتى اليوم في اعتراضاتهم على الانقلاب العسكري في مصر، وهو أمر يجب الاعتراف لهم به على الرغم من سحق اعتراضهم في ساحة رابعة بالدم والجرافات، ولكنهم لم يطلقوا العنان لأتباعهم لاستخدام القوة المسلحة، في مواجهة الجيش المصري. نقول حتى الآن ولا نعرف إلى أين ستصل الأمور، وهل سيبقون منضبطين وبرؤية استراتيجية؛ كي لا يقعوا في ما وقعت فيه مجموعات سيناء المسلحة؟
في قناعتي أن تنظيم الإخوان شجرة هائلة لا يمكن اقتلاعها، وكل عملية اضطهاد وسجن واعتقال وشنق، لن يكون لها سوى أثر تقليم الأشجار، فتزداد نموا ومناعة ضد الزوال؛ فهم قوم اعتادوا امتصاص الصدمات، مثل الشعب الفلسطيني في مواجهة الصهاينة وآلتهم العسكرية التي تذكر بصراع داوود وجالوت.
خذوا نموذج الحسين والشيعة، والمسيحيين وحمل عيسى الصليب إلى جبل الجلجثة، حتى اليوم ينادي الشيعة يا لثارات الحسين، والحسين مات قبل آلاف السنين، ومازال المسيحيون يصلبون بأيديهم على صدورهم ويقبلون الصليب مع أنه أداة القتل! وكل مشانق تعلق وسجون تفتح تدفع الإخوان وكثير من الناس للتعاطف معهم واعتبارهم (الحسين الجديد).
وهذا يقول أن العقل الإنساني شديد التعقيد، صعب الفهم، وأن العقائد تبنى عبر التاريخ بكثير من الأساطير، وحين تتشكل في التاريخ تترسخ فلا يمكن اقتلاعها بالسخرية منها أو اضطهاد أتباعها، وكذلك هو الحال مع شجرة الإخوان المسلمين في مصر، الذين أصبحوا شجرة باسقة هائلة تذكر بالأهرامات التي عجز عن قلعها كل من غزا مصر، لذا وجب التعامل معهم كحقيقة اجتماعية.
وفي قناعتي العميقة أن الإخوان أصبحوا قطعة من النسيج الاجتماعي، ولكن المشكلة هي كما أسميها أنا (الكود الوراثي) عند الإخوان المسلمين، فمازال عندهم ذلك الحنين العميق إلى فكرة (الخلافة الإسلامية) التي أسميها أنا (الخرافة) الإسلامية، و(التفرد) في الحكم طالما كانوا هم الممثل الشرعي الوحيد لله، فكما نسب حزب الله اللبناني نفسه إلى الله؛ على أنه الممثل الشرعي الوحيد لله على الأرض، وأن تحرير القدس يمر من الزبداني؛ فعلينا الانتظار طويلا لحين عودة الوعي من المنفى.
أعتقد أننا ما زلنا في أول الطريق ـ هذا إن كنا سلكناه ـ لبناء دول عصرية تقوم على العدالة أكثر من الشعارات؛ فيكسب القاموس كلمة، ويخسر الواقع حقيقة، على حد تعبير النيهوم الليبي.
تغيير (الكود الوراثي DNA) عند إخوان مصر خاصة يعني البدء بترشيد مفاهيم أتباعهم؛ بمعنى تغير العالم، والفلسفة العالمية، والانفتاح على الثقافات، والاعتراف بأننا توقفنا عن الإنتاج المعرفي منذ أيام ابن خلدون، وأننا نعيش عصر كافور الإخشيدي. وعلينا التعلم بتواضع وتلمذة لما أضيف من معرفة إنسانية عبر القرون، وأن نودع الفقه التقليدي لبناء فقه معاصر، وإدراك تطور الأنظمة، وفكرة السلام العالمي، ووضع فهم تأسيسي لمعنى الجهاد على أنه ليس للفتوحات والغزو، بل المشاركة في مجلس عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان، واعتماد روح المشاركة وعدم التفرد بالحكم، ووضع مناهج دينية جديدة لفهم القرآن، وغربلة الحديث من خرافات خطيرة تمتهن المرأة وتعتمد الأسطوري الخلاب (مثل حديث: يقطع الصلاة ثلاث الحمار والمرأة والكلب الأسود)؟ وحين يسأل الصحابي لماذا الكلب الأسود تحديدا ـ عفوا زيادة في العنصرية؟ يقول (لأنه شيطان! فالكلاب السود نعرف أنها شياطين)؟ وتنقية السيرة من روحها المسربلة بالغزوات والمعجزات، لتأخذ الشكل الإنساني الذي أطلقه ابن خلدون، بعد قرون من انبثاق الإسلام، لنفهم الواقعات من خلال التمحيص، ومقارنة الذاهب بالحاضر، والأحوال في الاجتماع الإنساني، وقواعد السياسة وطبيعة العمران وأصول العادة، وإلا دخلنا المتاهة كما حصل مع كثير من أئمة النقل والتفسير على حد تعبير ابن خلدون.
حين كتبت كتابي (في النقد الذاتي) لم ينتبه له لا الإخوان ـ فضلا عن محاربته وتحريم الاطلاع عليه على الأتباع ـ كما لم تستفد منه أنظمة العالم العربي، في تأسيس مفهوم اللاعنف في الصراع السياسي. إذا لوفر دماء كثيرة تسيح في الأرض السورية، حيث نشرت كتابي بدون فائدة.
وهذا يخضع لقانون أن الأفكار مثل الماء تنحبس في مناطق صخرية صلبة، لتنبجس ينايبع في أرض تستقبلها، وهو ما حصل لكتابي (النقد الذاتي)؛ فالوحيدون الذين استفادوا منه ودرّسوه لأتباعهم هم جماعة (بنكيران) في المغرب، فنجوا من المذابح والانقلابات والتنطع الفكري السلفي أو الانغلاقي الإخواني المنقطع عن صيروة التاريخ.
أمام الإخوان مع وجودهم خلف القضبان مراجعة قاسية لتجربتهم وفكرهم، وهل ثمة خطأ أو هو محنة في سبيل الله؟ فهذا هو المفصل الأول؛ فإن اعتبروه محنة تابعوا طريقهم بدون تغيير يذكر، فنطحوا الصخرة مجددا، وإن اعتبروا أنه خطأ استراتيجي رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ذلك أن الأحداث يساهم فيها طرفان، وخير ما يفعل المرء في المواجهات الصعبة مراجعة نفسه، حيث حقل التغيير في النفوس، فيدخل على برامجه للتعديل والإلغاء والإضافة والحذف، أما الخصم فهو عصي لا سيطرة عليه إلا من عند أنفسنا، وهو أمر يغفل عنه معظم الناس فينطحوا الجدار فيسيل الدم.
عليهم أن يفهموا أساليب الحكم بالمشاركة، عليهم أن يقطعوا مع فكرة الجهاد والقتال، واعتماد أسلوب اللاعنف في التغيير السياسي.
عليهم وهو الأهم، الانفتاح على الثقافات العالمية، وصيرورة التاريخ، وكيف ولدت الديموقراطية الحديثة، وحقوق الشعوب، والسلام العالمي، والمنظمات الدولية، وقانون الحقوق الإنساني، وتعليم الشباب إتقان اللغات والقراءة بنهم من معين كل الثقافات من الصين إلى بتاجونيا ومن سخالين إلى فانكوفر.