شوف تشوف

الرأي

 الأمن البيئي والاقتصادي

جمال أكاديري

 

من منظور بعض الخبراء الغربيين، صارت المخاطر الاجتماعية الآن تشمل بُعدًا بيئيا مهما، ويحق للمواطنين أن يطالبوا حكوماتهم، بتطوير وسائل جديدة لحمايتهم من صدماتها. ففي مواجهة الزيادة في كل التكاليف المادية والمعنوية، المرتبطة بآثار تغير المناخ وكوارث الأوبئة غير المتوقعة، وانعدام التأمين الخاص لتغطية هذه المخاطر (ولو جزئيا)، وما ينتج عن ذلك من زيادة في تفاوتات الضريبة الاجتماعية، فإن الأمر متروك لها أيضا، للتفكير في بناء دولة اجتماعية بيئية ستسمح، مستقبلا، بتجميع هذه التكاليف لتقليلها، وتقسيمها بشكل أكثر إنصافا، عند التغطية والدفع.

ولكن هناك أيضا أزمة أعمق، وهي أزمة النظام الاقتصادي غير المستدام بيئيا، والتي ستدفع الدول الغربية إلى الاهتمام بالنظم البيئية، لإيجاد حل ملائم دون التفريط في الاقتصاد والبيئة .

ورغم أن الأبحاث حول الصلة بين الصحة والبيئة، مستمرة منذ عقود، فقد ترسخ السؤال المقلق، لماذا لا يتم أخذها في الاعتبار بشكل كاف في السياسات العامة؟ 

طيلة القرن الماضي، انبهرت الحكومات العالمية بأسطورة «التقدم»، وهاجس النمو من أجل النمو؛ بحيث كان ينافس النمو الاقتصادي التقدم الاجتماعي، وبدت المسألة البيئية ضعيفة الحضور.

فهل فعلا، بعد أزمة وباء «كوفيد- 19»، دخل العالم بشكل لا رجعة فيه، منطقا تدبيريا جديدا، حيث يجب أن يتولى فيه تحالف بين الصحة الاجتماعية والاستدامة البيئية، واجهة القرارات الكبرى، أم أن هيمنة الخطاب الاقتصادي الليبيرالي الدوغمائي، حاليا، هي العقبة أمام أي تحول بيئي اجتماعي صحي؟

إن هيمنة هذا الخطاب على آراء الساسة، هي التي دفعتهم في فترة التعافي، إلى القول: علينا أولا إنقاذ الوظائف وسير الأعمال، وسنترك قضية التحول البيئي وتغير المناخ إلى ما بعد، لأنها مكلفة للغاية، وما إلى ذلك من الأقاويل غير المسؤولة .

 إنهم يعلمون جيدا أن تأخير مشاكل البيئة هو تقدير سخيف، لأن مكافحة تغير المناخ والحفاظ على النظم البيئية، في غضون العقود القادمة، سيكلفان آلاف المرات ما هي عليه الآن، وهذه الأزمات لن تختفي ما دام أصحاب القرار قرروا أن لا يأخذوها على محمل الجد. ثم إن التكلفة ستكون كارثة بيئية بشكل مروع، ولن تزداد تكلفتها إلا مع تفاقم اللامبالاة والمراوغة .

كثير من عقلاء الاقتصاد القدامى فهموا أهمية النظم البيئية في النظم الاقتصادية. اليوم، أضحى الاقتصاديون الليبيراليون مسجونين في أبراجهم الافتراضية، فهم يرسمون بيانات لعالم خيالي من الاقتصادات غير المادية، حيث تشكل البيئة مخزونا خاما لزيادة النمو الاقتصادي، لا غير .

ويمكننا أن نرى بوضوح عبثية ما يسمى بالمقايضة بين الصحة والاقتصاد (حملها فحوى الخطاب الاقتصادي الذي هيمن مع تراجع الوباء)، لأن البلدان التي عانت من أكبر الخسائر البشرية، كانت هي نفسها التي عانت من أكبر الخسائر الاقتصادية، فتعاطيها بداية مع الأزمة الصحية كان أقرب للإهمال وللذعر، بدلا من التخطيط الموجه. فإذن وبدون شك، أفضل سياسة اقتصادية هي سياسة صحية جيدة، وأفضل سياسة صحية هي سياسة بيئية جيدة.

أما الدرس، الذي يمكن استخلاصه من أزمة هذا الوباء، في تماسه مع خطي الصحة والبيئة، فهو أنه ينذرنا فعلا، إذا لم نأخذ قضية صحة الإنسان وارتباطها بالنظم البيئية على محمل الجد، سوف ندمر نمط هذا الاقتصاد الليبيرالي المعتد به كثيرا، في أجندات أندية الكبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى