شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الأذان ومكبرات الصوت

في بلدة «القامشلي» التي نشأت فيها كنت أنتشي بسماع الأذان، من بعيد ينطلق من فم المؤذن مع نسمات الصباح بصوت رخيم، فنلبي النداء. وأجمل ما كنت أسمعه فأميزه، المؤذن التركي من جامع «قاسيون» في دمشق. كان لحنا خالدا ينساب إلى قوقعة الأذن بلطف، ويسري تحت الجلد مثل الكهرباء تقشعر له جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله. 

مقالات ذات صلة

ثم وقعت الواقعة مع (مكبرات الصوت)، حيث كنت في مشفى في القصيم، ومع وجود مسجد في المستشفى، أبى المتشددون إلا بناء مسجد بكلفة باهظة في مكان مخصص للشوي ولعب الكرة والتفسح البريء وما شابه للممرضات وساكني المشفى، ولكنهم أقاموا المسجد مع أربعة مكبرات للصوت لا تبعد عن غرف النوم عندي أكثر من خمسة أمتار، يرتعب منها الأطفال وتكاد طبلة الأذن أن تثقب ويزعج المرضى في المشافي ـ ولو عند السحر ـ من طبقة صوت كقذائف المدفعية تذهل كل مرضعة عما أرضعت ولا يستطيع أحد أن يناقش أو يعترض، وإلا كان شيطانا مريدا.

ما زلت أتذكر مدينتي القامشلي كنت أتمتع يومها بالصلاة في المسجد الكبير خلف الإمام وحفظت الكثير من الآيات من فمه، وكان للمسجد يومها منارة بسلم يصعد المؤذن إلى أعلاها ويؤذن وهو يدور في دائرة بلكونية في قمتها.

ويذكر «مالك بن نبي»، في كتابه «شروط النهضة»، كيف تصرف المجتمع الإسلامي في موضوع النداء للصلاة، فاستعاض عن صناعة الأجراس وملحقاتها بأداة بسيطة للغاية هي (الصوت الإنساني).

والمهم فقد بقيت المئذنة تؤدي وظيفتها في استخدام الصوت الإنساني، حتى جاء عصر (الآلة)، أي مكبرات الصوت، وهنا لم يعد المؤذن بحاجة إلى الصعود إلى أعلاها ويكفي تركيب الجهاز فوق رأسها، كما لم تعد هناك حاجة إلى تركيب منارة مكلفة بدرج حلزوني من داخلها، بل تقام المآذن بدون أدراج، فقد أصبحت المآذن والقباب رموزا إسلامية.

ومع دخول (الآلة) دخلت (المشكلة) وكما حدث مع حوادث السيارات وظهور قوانين تنظم المرور وضوابط في السيارة من الحزام والصيانة، كان يجب أن يحدث الشيء نفسه مع آلة الأذان.

وهذا الموضوع حساس جدا، لأنه يتعلق بالدين ودعوة الناس إلى الصلاة، ولكن لا بد من طرقه لإيجاد أفضل السبل للتعامل مع الآلة الجديدة.

والصوت حينما يكون رخيا شجيا بطبقة صوتية مقبولة على بعد مقبول، انشرحت له النفوس، وإن زاد عن حده وارتفعت طبقته عن الحد الطبيعي، أصبح مَرَضِيا ومزعجا ومنفرا، فهذه هي قوانين العضوية. وليس من فراغ أن أدبنا القرآن أن لا نرفع أصواتنا بقوله: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».

وفي مكبرات الصوت ارتفع الصوت إلى طبقة مخيفة مقلقة، يكاد المرء أحيانا أن يخشى على طبلة الأذن من الانثقاب، ومعروف عن حاسة السمع أنها شديدة التأثر، فإذا بلغت طبقة الديسيبل درجة عالية أدت إلى صمم لا فكاك منه، فالموضوع جد وليس بالهزل.  ولكن لا يتجرأ أحد فيعترض فيواجه بقوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. وهو ليس كذلك، وهنا لم يبق مكان للعقل والمعقولية والمناقشة، بل تحول إلى إرهاب ديني يختبئ تحت نصوص غير موجودة.

وشرح هذا أن من أراد أن يصلي فليصلي، فلا يشترط اقتحام خصوصية الناس وإجبارهم على الاستماع إلى كل أصناف الكلام أرادوه أم لم يريدوه، تحت شعار الدعوة إلى الله. وهي لا تزيد على مفاهيم اجتهد فيها أحدهم قد يبتعد فيها أو يقترب من الحق، ولكن الأكيد فيها هو أنها مزعجة للناس باقتحام آذانهم غصبا عنهم.

وفي أكثر من دولة عربية يتم حاليا تدارس فكرة أن يكون الأذان في وقت واحد على نحو موحد، وهذا يشبه فكرة إنارة المدن بالكمية اللازمة للإنارة، بدون إفراط وتفريط. وبالطبع فإن قسما من المتشددين سيعتبر أن هذا ضد الدين وإفسادا في الأرض، ولكن الدين بهذه الطريقة يتحول إلى أداة إرهاب دينية لا يمكن مناقشتها، ومكبرات الصوت إلى ملوثات بيئية. 

وحينما يكون في مساحة مائتي متر مربع أكثر من  أربعة مساجد، على رأس كل منارة أربعة مكبرات بقوة 120 ديسيبلا تنقل خلالها كل همسة وهمهمة ودمدمة ودرس وصلاة على الأموات وصلاة كسوف وخسوف ومواعظ جهادية وخرق جماجم الناس بالقوة بالعشي والإبكار، فهو هنا أكثر من دعوة إلى الصلاة، كمن يصرخ لرجل بجانبه لا يحتاج إلى أكثر من الهمس ما لم يكن أطرش (أصم)، وليس كل الناس طُرْش، والأطرش يعالج بجهاز في الأذن المصابة، وليس إزعاج كل من حول الأطرش. ثم إن الساعة حلت مشكلة التوقيت، والأذان شرع للتوقيت. وأقم الصلاة لذكري.

إن هذه المسألة تذكرني بمعركة نشبت بين أنصار التحديث والمحافظة على السنة في نجد، قبل أربعين سنة، حين جاءت مكبرات الصوت لأول مرة، فاعتبروها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وليت الأمر نجح وبقي الصوت الإنساني، ولكن مشكلة صراع القديم والجديد لا تبقى عند مكبرات الصوت، وإلا لبقينا نركب البرذون ونحلب النوق والمعز، واعتبرنا أن الجن تنقل التلغراف.  

خالص جلبي  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى