لم يكن جيران الزوجين اليهوديين، طوليدانو وشتريت، يعتقدون أن غيابهما نهائي ولا رجعة فيه، فقد ظل هذا «الكوبل» يعيش حياة هادئة في فيلا بزقاق هادئ، دون أن يلفت نظر السكان، قبل أن ينقلب الهدوء إلى صخب وتنتقل السلطات الأمنية والطبية والوقاية المدنية إلى «الفيلا» التي تحولت إلى مسرح لجريمة بشعة ذهب ضحيتها زوجان من جنسية مغربية وديانة يهودية يقضيان حياة التقاعد الرتيبة بين سكنهما وكورنيش عين الذئاب لممارسة هواية المشي، إذ تبين أن البستاني الخمسيني أجهز عليهما في لحظة يأس وخصاص ونكل بجسديهما بشكل هز مشاعر الجيران وأقارب الضحيتين. في سيناريو أعاد إلى الأذهان واقعة عمر البستاني الذي اتهم بقتل مشغلته الفرنسية.
إجماع على تعايش الضحيتين اليهوديتين
رغم انشغال مصطفى البستاني بتشذيب الأغصان والتخلص من الطفيليات النباتية لفيلا زوجين يهوديين من أصول مغربية، فإنه أصبح متهما بقص أعضاء مشغليه سام طوليدانو وفيشي بنشتريت، بعد أيام عن اختفائهما وعدم ظهور أي أثر لهما ما قوى من فرضية الطارئ العدواني الذي انتهى بمواجهة البستاني بتهم ثقيلة، بدءا بالقتل العمد مع نية إحداثه، والسرقة الموصوف وانتهاء بخيانة الأمانة.
كانت زنقة مجموعة ياء، المتفرعة عن زنقة نيس، بحي لهجاجمة بالبيضاء، من أكثر الأزقة هدوءا، رغم أنه لا تفصلها عن الحي الصفيحي إلا بضعة أمتار، إذ توجد فيلا رقم 20 التي يقطنها اليهوديان في مكان آمن بين مسكن رجل سلطة متقاعد وفضاء للتجميل والحلاقة العصرية، ما يمنح للبستاني فرصة لممارسة عمله في هدوء.
قال حارس فضاء التجميل القريب لسكن القتيلين، إنهما يتعايشان مع الجيران بشكل لطيف، ويلقيان التحية كلما التقيا بأحد أبناء الزقاق، «لا أصدق أن سام وفيتشي قد قتلا بيد آثمة، لأنهما لا يستحقان هذه النهاية الأليمة لأن سمعتهما في الحي جيدة، لذا أشعر بالقلق منذ أن سمعت بالخبر وأصبحت عرضة للاستنطاق البوليسي».
قص الأغصان والأعضاء البشرية
بدأت أولى خيوط الحكاية، حين قرر سام انتداب بستاني تقتصر مهمته على القيام بأشغال البستنة، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، كان التعاقد بين الطرفين شفويا، مقابل مبلغ مالي يمكن المستخدم من الاشتغال حسب احتياجات الفيلا، التي تحرص الزوجة فيشي على الاعتناء بها بل تصر على شرح الواضحات لبستاني لا يشتغل طوال الدوام اليومي، لكنه مطالب بتنفيذ التعليمات كما تريدها «ست البيت» المتيمة بقراءة المجلات الخاصة بالديكور المنزلي، فلا يجد حرجا في تنفيذ التعليمات التي تدخل في صميم اختصاصاته.
لم يكن الزوجان يعلمان أن مصطفى يعاني من ضائقة مالية، وأنه يضطر للانتقال إلى لهجاجمة من حي متاخم للبرنوصي على متن حافلة، بل إن هاجسه الأكبر هو تراكم واجبات كراء شقة يقطنها رفقة ابنيه وزوجته، ما جعله يفكر في وسيلة لإنهاء ضائقته فقاده تفكيره إلى أمور أخرى.
وحسب حارس فضاء التجميل المتاخم لفيلا الضحيتين، فإن هذين الأخيرين غابا عن الأنظار خلال الأسبوع الأخير من شهر رمضان، بعد أن اعتادا الخروج بين الفينة والأخرى من البيت واستقبال ضيوفهما فيه، وأغلبهم من الجالية اليهودية المقيمة في الدار البيضاء. لا سيما أن ابنتي سام وفيشي تتابعان دراستهما خارج المغرب ولا تعودان إلى الدار البيضاء إلا أثناء العطلة الدراسية.
إجماع على حسن سيرة «الكوبل» اليهودي
حسب شهادات استقتها «الأخبار» من عين المكان، فإن ظهور البستاني في اليوم الذي سبق عيد الفطر، لم يثر شكوكا، رغم أنه كان منهمكا في إخراج أكياس بلاستيكية ظاهرها بقايا أغضان وأوراق أشجار وعشب فاسدة، وباطنها أطراف الجثتين. «لا أحد يمكنه أن يشك في بستاني منهمك في إخراج بقايا الأغصان والأوراق، لم يكن يملك دراجة نارية لكنه استعان بوسيلة نقل لإبعاد أطراف الضحيتين عن مسرح الجريمة، فيما أخفى الأحشاء في بالوعة الصرف الصحي، حتى إذا انبعثت منه رائحة نتنة لا أحد يفطن لسببها الحقيقي.
ظلت نجلتا سام وفيشي تحاولان عبثا الاتصال بوالديهما هاتفيا لأن هاتفيهما كانا خارج الخدمة، وحتى هاتف البيت لم يكن يرد، فازدادت مخاوفهما، وجددا الاتصال بأحد أفراد الجالية اليهودية الذي حل بالبيت وظل يطرق بابه عبثا، قبل أن يقرر تقديم شكاية للسلطات الأمنية، التي استمعت جيدا للمشتكي وقررت التحرك بشكل سري. إلى أن تبين أن القضية لا تتعلق برحلة استجمام للزوجين خارج الدار البيضاء، بل بجريمة قائمة الأركان.
جريمة خطط لها في ليلة القدر
من خلال بحث تمهيدي للضابطة القضائية بولاية أمن الدار البيضاء، تبين أنه يشتبه في إقدام البستاني على سرقة بيت الضحيتين، قبل أسبوع وتسبب، حسب صك الاتهام، في مقتل الزوجين، بعد أن اكتشفا أمر الجاني البستاني وهو يحاول سرقة الأموال والمجوهرات التي كانت في البيت.
في يوم العيد، توجه أحد أصدقاء سام وعضو الجالية اليهودية في الدار البيضاء، إلى مصالح المداومة الأمنية، وأبلغ عن اختفاء زوجين مسنين دون أن يتركا أثرا، حينها شرعت الضابطة القضائية في جمع أكبر قدر من البيانات حول الزوجين المختفيين، خاصة أن الأمر يتعلق بيهوديين يمكن أن يكونا هدفا للمتطرفين.
هذا وتبين من خلال الزيارة الأولية لعناصر الضابطة والفرقة العلمية، وجود آثار دماء في أركان البيت ودورة المياه، وفي المواسير، ووجهت الاستدعاءات إلى جيران المختفيين والبستاني وأفراد أسرته وكل المترددين على بيتهما.
تم التعرف على المشتبه به بسرعة من قبل المحققين الذين أبقوا سرا نتائج التحقيق للعثور على جثتي الهالكين، هو بستاني يعمل لدى الضحيتين، حيث دخل إلى المنزل وقتل الزوج، قبل مهاجمة زوجته، ثم قام بتقطيع الجثتين وفرق أجزاء منهما في عدة مواقع بالدار البيضاء. وعهد لفرق جد مدربة بتسريع وتيرة الكشف عن الجاني، قبل أن تصبح قضية رأي عام، وقالت مصادر أمنية إن عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن الوطني، أشرف شخصيا على الملف ما مكن من إلقاء القبض على البستاني الذي قادت التحريات إلى ضلوعه في القضية بسبب عوز مالي ودين رهيب.
بلاغ لتبرئة الذمة من عمل متطرف
وحتى لا تختلط الأمور على الإعلام وتزج بالتعصب الديني في النازلة، فإن المديرية العامة للأمن الوطني أصدرت بلاغا تصر فيه على أن دواعي الجريمة لا علاقة لها بأي فعل إرهابي، بل إن المصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة الدار البيضاء تمكنت، زوال الجمعة الماضي، من إيقاف شخص يبلغ من العمر 51 سنة يشغل مهمة بستاني، يشتبه في تورطه في ارتكاب جريمة القتل العمد المقرون بالسرقة الموصوفة، مع التمثيل بجثتي مواطنين مغربيين يعتنقان الديانة اليهودية.
وقال البلاغ إن مصالح ولاية أمن الدار البيضاء توصلت بإبلاغ مفاده اختفاء الضحية وزوجته في ظروف مشكوك فيها منذ الثاني من شهر يوليوز الجاري، قبل أن تظهر الأبحاث والتحريات المنجزة تحت إشراف النيابة العامة المختصة، تورط البستاني الذي يعمل لدى الضحيتين في قتلهما والتمثيل بجثتيهما والتخلص منهما بأمكنة متفرقة.
وأضاف البلاغ: «حسب المعلومات الأولية للبحث، فإن الدافع الرئيسي لهذه الجريمة هو السرقة، حيث استولى المشتبه فيه على ذهب ومجوهرات في ملكية الضحيتين، ولا علاقة للقضية بأي عمل إرهابي».
واحتفظت المصلحة الولائية للشرطة القضائية بالدار البيضاء بالمشتبه فيه تحت الحراسة النظرية رهن إشارة البحث الذي يجرى تحت إشراف النيابة العامة المختصة، بينما لا زالت التحريات متواصلة لتحديد جميع ملابسات وظروف القضية، حسب بلاغ الأمن الوطني.
أولى خيوط التحقيق الأمني
- كيف وصل المحققون إلى البستاني وجعله المتهم الأول في القضية؟
تقول مصادر «الأخبار» إن التحريات ركزت على البستاني باعتباره الشخص الأكثر ارتباطا ومعرفة بالمختفين، وتبين أنه كان يعاني من ضائقة مالية بعد أن عجز عن تسديد واجب كراء شقة كان يقيم فيها، ولأن يدا امتدت إلى دولاب في غرفة النوم وسرقت بعض الحلي الذهبية ومبلغا ماليا، فإن المحققين ربطوا فرضية السرقة بالضائقة، قبل أن تظهر أولى الخيوط، حين تبين أن البستاني سدد قبل العيد ما كان بذمته بل استأجر شقة جديدة وأدى ضمانة مالية بقيمة واجب شهرين، ولعل التحول من العسر إلى اليسر، شجع على الغوص في الملف، فإن السؤال الجوهري الذي طرحته الضابطة القضائية هو:
- من أين لك هذا؟
ومن أين تدبر البستاني المشتبه فيه، المبالغ المالية التي سدد بها تراكم الديون وعدم قدرته على إعادة جدولتها؟
كان رد المتهم جاهزا:
اقترضت من شقيقتي مبلغ 5000 درهم كانت تكفي لإعادة جدولة الدين. إلا أن شقيقته التي وجه لها استدعاء للمثول أمام الضابطة القضائية، أنكرت جملة وتفصيلا تقديمها سلف لشقيقها، وقالت إن وضعيتها الاجتماعية لا تسمح لها بمنح سلفات صغرى، فزاد وضع المتهم سوءا أمام المحققين.
استنفار أمني بسبب رعب الجريمة
كشفت الشرطة العلمية، بتنسيق مع المعهد الشرعي، أن سام توليدانو وزوجته فيتشي شتريت، اغتيلا منذ يوم الأحد 27 رمضان، ولم يتم اكتشاف أمر وفاتهما إلا بعد زوال الأربعاء، أي يوم عيد الفطر. من خلال تحديد هوية الضحيتين بناء على آثار دماء تعود إليهما، حينها تقوت فرضية ارتكاب الجريمة بسبب ضائقة مالية يمر منها المتهم منذ أسابيع، علما أن البستاني هو الشخص الذي كان يدخل الفيلا بدون استئذان، وهو الذي كان يشتغل لدى الضحية طوليدانو منذ سنوات، وكان يعيش مشاكل مادية بسبب قرار طرده من البيت الذي كان يستأجره رفقة أسرته، ما جعله يفكر في خطة لسرقة مشغليه، ولم يتوصل المحققون إلى ما إذا كان المتهم التمس من مشغليه مبلغا ماليا لتدبير المرحلة المقلقة. وبعد تجميع المعطيات اللازمة بعد إيقاف المتهم، انتقلت عناصر الشرطة إلى منطقة حي إفريقيا، غير بعيد عن المكان الذي كان مخصصا لبيع الأغنام، حيث تم العثور على أشلاء وأطراف جثة امرأة، في كيس بلاستيكي. كما عثرت على أطراف أخرى غير بعيد عن «مرجان» درب السلطان.
وفي مساء الجمعة نفسه انتقلت عناصر مصلحة الشرطة القضائية، بتنسيق مع عناصر الغرفة الجنائية، ومصالح أمنية أخرى، إلى منزل الزوجين الهالكين من أجل فك لغز اختفاء أحشاء الجثتين، وتبين أنها توجد بالوعات مياه الصرف الصحي، ما تطلب مجهودا كبيرا بمساعدة من الوقاية المدنية للوصول إلى الأحشاء، ما حول المكان إلى فضاء آسن، وجعله مسرح جريمة بامتياز قبل تشميعه في انتظار تعميق البحث، بينما ظل المتهم الرئيسي رهن الاعتقال حيث مددت حراسته النظرية في مناسبتين.
وتأتي هذه الواقعة في غمرة استنفار رجال أمن المنطقة الولائية، بعد أيام قليلة من حادث العثور على جثة مشردة قتلت حرقا بعد اغتصابها على أيدي مشردين آخرين، وأشلاء جثة فتاة في منطقة عين الشق.
الطائفة اليهودية تلتزم الصمت
إلى غاية كتابة هذه السطور، التزمت الطائفة اليهودية المقيمة في الدار البيضاء، الصمت. ولم تصدر أي بلاغ لها حول الجريمة البشعة، علما أن أفراد الطائفة اعتادوا التنديد بكل ما يمس أفرادها، بل إنها احتجت على وقفة احتجاجية تضامنية مع الشعب الفلسطيني في منطقة درب السلطان، استعمل فيها مشهد تمثيل نحر يهوديين، ما أغضب مجلس الطائفة واعتبرها تحريضا على التطرف ودعوة صريحة لذبح اليهود.
في مقابل صمت الهيئة الرسمية المدافعة عن اليهود المغاربة، فإن عددا من اليهود المغاربة وحاملي الجنسيات الأخرى، نددوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالجريمة التي وصفتها كثير من التعليقات بالبشعة، كما تم التنويه بخصال الفقيدين وحسهما الإنساني، خاصة أن سام واسمه الحقيقي سامويل، كان يشتغل في القطاع الطبي، بينما عرف عن زوجته فيكتوريا الشهيرة بفيشي انتماؤها لأسرة بيضاوية عريقة.