الأخبار تقتحم قلاع الإدمان على المخدرات القوية بمدن الشمال

تطوان: حسن الخضراوي
لا يطالب مدمنو المخدرات القوية بالشمال بأشياء مستحيلة. كل ما يطمحون إليه هو تغيير نظرة المجتمع القاسية اتجاههم واعتبارهم ضحايا سقطوا في فخ الإدمان في غفلة منهم، وليسوا مجرمين ومواطنين من الدرجة الثانية. لا يهمهم إن هضمت حقوقهم أو منعوا من الدواء وحقهم في وجود مراكز للعلاج تنقذهم من شبح الموت الذي يترصدهم، لكنهم يأملون أن يفتح أمامهم باب الإقلاع عن تناول المخدرات والعودة إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي وبعزيمة وإصرار أكثر من السابق.
لم يكن من السهل اقتحام قلاع الإدمان على المخدرات القوية (الهيروين والكوكايين) بمدن الشمال، وإقناع مدمنين بفتح قلوبهم لـ «الأخبار» من أجل نقل معاناتهم وقصصهم المثيرة حول تجارب الإدمان والسجن والأمراض الخطيرة التي تتهدد حياتهم كل لحظة مثل السيدا، والسل، والتهاب الكبد، وأنواع خطيرة من أمراض الحساسية إلى غير ذلك.
كل من التقيناهم من المدمنين، خلال إنجاز هذا التحقيق، كانت تساورهم شكوك متعددة حول هويتنا الحقيقية وكيفية استغلال المعلومات التي يمكن أن نصل إليها في الموضوع، فضلا عن الحذر الشديد من تتبع خطاهم لمعرفة الجهة التي يجلبون منها مخدر الهيروين مثلا، أو المكان الذي يتم اختياره من طرف بعض المجموعات لاستهلاك المخدر وفق طقوس خاصة.
تغيير زاوية النظر
قد يرى بعض الناس مدمنا على المخدرات القوية بأحد الشوارع أو الأحياء فيضطرون إلى تجنبه والابتعاد عنه، مخافة التعرض للسرقة أو الاعتداء عليهم أو ما شابه، لكن الاقتراب من هذه الفئة أكثر وكسب ثقتها يغير زاوية النظر تماما، حيث تكتشف حجم المعاناة القاسية والرغبة الجامحة في تصحيح أخطاء الماضي والعودة إلى عيش حياة طبيعية، إذا توفرت الظروف المناسبة للعلاج، وتوفر معها احتضان المجتمع لهذه الفئة والمساعدة على إعادة إدماجها، عوض اعتبارها فئة منتهية الصلاحية لا أمل لها في المستقبل سوى الاستمرار في طريق الإدمان وانتظار وصول شبح الموت ليختطفها بسبب الإصابة بالأمراض الخطيرة ومضاعفاتها أو الانتحار بطرق متعددة أو ما شابه ذلك من المآسي الإنسانية.
ساهمت المقاربة الأمنية وتنزيل مصالح ولاية أمن تطوان لاستراتيجية الإدارة العامة للأمن الوطني في محاربة المخدرات بأنواعها، في التقليص من نسبة انتشار المخدرات القوية(الهيروين والكوكايين) ومحاربة المافيات المسؤولة عن تزويد السوق الشمالية بهذه المواد السامة، لكن تبقى دوما نتائج كل المقاربات التقنية محدودة، في غياب تام للدور الذي يجب أن تلعبه وزارة الصحة في توفير كافة الأدوية وتشييد مراكز العلاج، فضلا عن التنسيق بين جميع المؤسسات لإنقاذ فئة المدمنين ومحاولة التحكم في خريطة الإدمان من خلال العمل الميداني، وتكثيف حملات التوعية والتحسيس داخل أوساط الشباب والمؤسسات التعليمية بشكل خاص.
فخ التجربة الأولى
كل من التقاهم طاقم «الأخبار» من المدمنين على المخدرات القوية بمدن عمالة المضيق-الفنيدق أو تطوان يتحدثون عن فخ التجربة الأولى، وكيف تم سقوطهم في براثن الإدمان بمجرد تناول ثلاث أو أربع جرعات للتجريب وإشباع الفضول فقط.
يقول سعيد (اسم مستعار) أحد الشباب المدمنين بالمضيق والمزداد سنة 1982، أن الإدمان على مخدر الهيروين دمر حياته وحولها إلى جحيم لا يطاق، بحيث لو كتب وعادت عقارب الساعة إلى الخلف، ما كان ليجرب تلك الجرعة اللعينة التي تناولها بأحد أحياء سبتة المحتلة عندما كان رفقة ابن عمته الذي يتاجر في المخدرات القوية.
ويضيف المتحدث نفسه، أنه يستهلك جرعتين من الهيروين يوميا ثمن كل واحدة 70 درهما، لذلك يضطر إلى العمل بمختلف المهن لساعات متواصلة من أجل توفير المبالغ المالية لشراء ما ظل يسميه مرات متعددة خلال حوارنا معه بـ «البلية الكحلة».
يتحسر سعيد عن حياته التي أوشكت على الضياع بسبب الإدمان على المخدرات القوية، ويتساءل بعد تنهيدة عميقة؛(ماذا تعني كلمة(جانكي)، لماذا يطلقون علينا هذا الاسم القدحي ويحاول الجميع تهميش مطالبتنا المؤسسات المسؤولة ووزارة الصحة بتوفير الدواء والعلاج والمساعدة على العودة إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي، فضلا عن تصحيح أخطاء الماضي..؟!.(لست أدري هل نحن مواطنون لنا الحق في العلاج، أم فئة من الدرجة الثانية يجب أن تشكل «جفاف» لكل من يريد استغلال مآسينا ومعاناتنا مع مصيبة الإدمان).
يتدخل زميل لسعيد كان يقف بجانبه ويقول؛(لا أحد يريد الاقتراب منا أو الاستماع إلى معاناتنا مع الإدمان الذي يمكن لأي شاب متهور السقوط في فخه بسبب الطيش أو مصاحبة أصدقاء السوء، أو حتى الاستدراج من طرف مافيات الاتجار في المخدرات واستهدافها توسيع دائرة المدمنين لتحقيق أرباح خيالية من خلال ارتفاع الطلب وتزايده..إذا كانت هناك من رسالة يجب إيصالها لحكومة سعد الدين العثماني الجديدة بشكل مستعجل والحسين الوردي وزير الصحة على وجه الخصوص، هي توفير العلاج والأدوية والمساعدة على التحكم في انتشار الإدمان بمدن الشمال، لإنقاذ الشباب من هذه الورطة التي يصعب وصف معاناتها وتأثيرها السلبي على العلاقات الاجتماعية والأسرية).
وحسب مصادر مهتمة، فان أعداد المدمنين على المخدرات القوية بمدن الشمال لا يمكن حصرها، لأن هناك إكراهات متعددة للإحصاء أهمها أن بعض العائلات تعتبر الأمر «طابو» وتتستر على إدمان أبنائها، فضلا عن غياب جمعيات متخصصة ومراكز علاج يمكنها تقديم بعض المعطيات الدقيقة حول خريطة الإدمان مثلا بعمالة المضيق-الفنيدق، وعدد المدمنين بكل من مرتيل والفنيدق والمضيق.
وتضيف المصادر نفسها أنه بالمضيق مثلا، يمكن الحديث كتقدير من طرف إحدى الجمعيات المهتمة عن حوالي 200 مدمن على مخدر الهيروين والعدد مرشح للارتفاع، في ظل الغياب التام لحملات التوعية والتحسيس داخل أوساط الشباب، فضلا عن كمية الأدوية غير الكافية تماما مقارنة مع أعداد المدمنين.
المصادر ذاتها تقول إن السياسات العامة والمؤسسات المسؤولة تهمل فئة المدمنين، رغم نداءات الاستغاثة التي يطالبون من خلالها بمساعدتهم على الإقلاع عن تناول المخدرات وتعويض الجرعات بأدوية يتم تناولها، في انتظار التماثل للشفاء والعودة إلى عيش حياة طبيعية.
فن وإدمان
انتظرناه طويلا بالمضيق رفقة مرافقنا، قبل أن يلتحق بمكان وموعد اللقاء، بعد تناوله جرعته اليومية من مخدر الهيروين بمكان مجهول اختار أن لا نتبعه إليه، من أجل استكشافه أو الاطلاع على بعض الطقوس الخاصة هناك.
هو شيخ خمسيني متزوج وله أطفال يعلمون بإدمانه على المخدرات بحسبه، لكنهم يكنون له كامل الحب والود والاحترام، ويطالبون الجهات المسؤولة بتوفير الأدوية لمساعدة والدهم على الإقلاع والنجاح في العودة إلى ممارسة حياته الطبيعية كما فعل بعض من أصدقائه المدمنين الذين كانوا يعيشون مثل حالته تماما.
يقول الشيخ الخمسيني إنه سقط في فخ الإدمان منذ سنين خلت، والسبب في ذلك هو غياب فرص العمل بالمدينة والفضاءات التي يمكن أن تصقل المواهب الشبابية وتساهم في تشجيعها، خاصة أنه كان يملك خلال شبابه موهبتين خاصتين بالعزف على القيثارة، ورياضة الغطس تحت المياه.
ويضيف المتحدث نفسه أن طريق الادمان على مخدر الهيروين يعتبر من أقصر الطرق المؤدية إلى الموت، لأن غياب «البلية» يتسبب في آلام حادة بالجسد كامله وضغط نفسي رهيب، فضلا عن عدم التحكم والسيطرة في السلوكات وإمكانية ارتكاب جرائم بشعة أو الانتحار المفاجىء بالقفز من مكان مرتفع أو حتى الارتماء أمام سيارة أو ما شابه ذلك.
وكشف المتحدث ذاته، أنه يعزف على القيثارة التي أهدته اياها مهاجرة مغربية مقيمة بالديار الأوروبية، ويبدع في أداء أغاني تتحدث عن معاناة المدمنين ونفور المحيط الأسري والاجتماعي منهم، وكأنهم (قذارة) وليسوا مواطنين ضحايا السقوط في فخ تجريب ما ينصح بعدم تجريبه من أنواع المخدرات القوية.
وشدد الشيخ المدمن على أن بعض أصدقائه من المدمنين فارقوا الحياة بسبب إصابتهم بمضاعفات بعض الأمراض الخطيرة في غياب الأدوية والعلاج، رغم النداءات المتكررة التي تطلقها الجمعيات المهتمة ودق ناقوس خطر انتشار الإدمان، فضلا عن الصمت المطبق الذي تتعامل به بعض المؤسسات مع الموضوع الذي أصبح يفرض نفسه بقوة على أرض الواقع.
ويحكي الخمسيني عن حلم إقلاعه عن الإدمان وأمل مساعدته من طرف الجميع لتحقيق ذلك بكل ثقة في النفس، قبل دعوته المجتمع إلى عدم الحكم المسبق على هذه الفئة بالموت والتهميش والإقصاء واللامبالاة، فقط لأنه يوما ما وقعوا في فخ الجرعة الأولى وسقطوا ضحايا مافيات الاتجار في المخدرات بأنواعها وغياب مراكز علاج الإدمان والمساعدة الاجتماعية.
الإدمان والسيدا
حسب المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» خلال إنجاز هذا الموضوع، فإن مجموعة من المدمنين على المخدرات القوية بالشمال مصابون بأمراض خطيرة أدت إلى وفاة العديد منهم، مثل داء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا) والتهاب الكبد والسل إلى غير ذلك.
وقال نبيل بنعيسى الفاعل الجمعوي بالمضيق إن على المؤسسات تحمل كامل مسؤوليتها في إهمال فئة المدمنين بمدن الشمال، وعدم القيام بالإجراءات الخاصة بالفحص والتحاليل الضرورية للمساهمة في التحكم في انتشار الأمراض المعدية الخطيرة.
وأضاف المتحدث نفسه، أن عمالة المضيق- الفنيدق، أصبحت في حاجة ماسة إلى وجود مركز خاص بعلاج الإدمان تستفيد منه كل من مدن الفنيدق ومرتيل والمضيق، خاصة في ظل ارتفاع نسبة المدمنين والتضارب في الأرقام بسبب غياب إحصاءات ميدانية دقيقة.
وكشف المتحدث ذاته أن فئة المدمنين لا يمكن أن تدافع عن حقوقها أو تطالب بها، لأنها مغيبة عن الواقع بفعل التخدير وتعيش أوضاعا كارثية بكل المقاييس ومعاناة قاسية مع نظرة المجتمع وتهميشها خلال تسطير وإنجاز السياسات العامة، ما يتطلب تنسيق الجهود بين كافة الأصوات والجمعيات المهتمة لإيصال صوت هؤلاء، وضمان حقهم في العلاج والحصول على الأدوية المساعدة على الإقلاع عن الإدمان من مثل (ميثادون). وسبق ونظمت وقفات احتجاجية بالمضيق، رفعت خلالها شعارات قوية تنادي وزارة الصحة بتوفير الأدوية الضرورية لمعالجة الإدمان بتراب عمالة المضيق -الفنيدق، فضلا عن ضرورة تشييد مركز خاص بعلاج الإدمان وتجهيزه بكافة المستلزمات الطبية، والتجهيزات المطلوبة للكشف عن الحالات ومتابعتها من خلال العلاج النفسي والعضوي.
المقاربة الأمنية
بعد نجاح مصالح ولاية أمن تطوان بشكل كبير في تنزيل الاستراتيجية الخاصة للإدارة العامة للأمن الوطني في محاربة الجريمة بأنواعها، خاصة الاتجار في المخدرات القوية وأقراص الهلوسة، تم التضييق على مزودي السوق الشمالية بالمخدرات ومطاردتهم بجميع المدن، حيث تم إلقاء القبض على البعض وتحرير مذكرات بحث وطنية ومحلية في حق آخرين فروا إلى وجهات مختلفة.
أحد المدمنين على مخدر الهيروين قال إن الحرب التي تشنها السلطات الأمنية أدت إلى ندرة المخدرات القوية، لكن المؤسسات الأخرى الموازية لم تقدم البديل من أجل العلاج، وتركتهم يعيشون آلامهم ومعاناتهم في صمت.
وأضاف المتحدث نفسه أن تجار المخدرات القوية نقلوا أنشطتهم إلى أدغال غابات توجد ضواحي تطوان، حيث يقصد كل مدمن المكان من أجل الحصول على جرعته اليومية، وسط تخوفات من تطويق المكان من طرف السلطات الأمنية أو رجال الدرك الملكي واعتقال الجميع من أجل اقتيادهم للتحقيق وتقديمهم إلى العدالة.
وحسب مصدر آخر فإن نجاح محاربة انتشار المخدرات يجب أن توازيه إلى جانب المقاربة الأمنية، مقاربات أخرى تتحمل مسؤوليتها وزارة الصحة من خلال توفير مراكز العلاج والدواء، فضلا عن جمعيات المجتمع المدني التي يمكن أن تنسق مع المؤسسات للقيام بمبادرات تساهم في نشر التوعية الضرورية، وتنظيم الأنشطة التحسيسية بأخطار الإدمان على الفرد والمجتمع داخل المؤسسات التعليمية وفي الفضاءات العامة.
هكذا إذن تعاني فئة المدمنين على المخدرات القوية بالشمال، من خطر الإصابة بالأمراض الفتاكة والنظرة الدونية للمحيط العائلي والاجتماعي، وغياب مراكز العلاج والدواء، في انتظار اهتمام السياسات العامة بظاهرة الإدمان، ودق ناقوس خطر انتشاره في أوساط الشباب الذي تستهدفه مافيا الاتجار في المخدرات كي تجعله سجين اللفافات البيضاء المسمومة وزبونا مخلصا لتحقيق أرباح خيالية.