الأخبار تزور مستشفى برشيد وتكشف حقيقة شعار « الكرامة»
مصطفى عفيف
نقص الموارد البشرية واللوجيستية بمستشفى الرازي للأمراض النفسية ببرشيد، وضعف الخدمات المقدمة للنزلاء، وعلى رأسها التغذية التي لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فضلا عن تآكل التجهيزات، جعلت عددا من المحسنين وبعض مديري الشركات يخصصون مساعدات غير منتظمة للوافدين على هذا المستشفى. لكن ما يقدمه هؤلاء لا يظهر له أثر على الوضع العام للمستشفى، في ظل غياب خطوات ملموسة من الجهات الوصية لمعالجة ما يصفه بعض النقابيين في القطاع بالاختلالات التي تتطلب، في نظرهم، تحركا للوزارة التي لا يمكن للجمعيات أن تحل محلها.
هؤلاء يشيرون أيضا إلى بناية المستشفى المتآكلة الجدران من كل جوانبها، والأجنحة لا تتوفر فيها شروط تليق باستقبال الحالات المرضية المتواجدة بها، بعدما تخلت الجهات الوصية على قطاع الصحة عن هذه العينة من المرضى وتركت موظفيها يواجهون الصعوبات اليومية.
حقيقة شعار «الكرامة»
يتساءل عدد من الممرضين والإداريين بمستشفى الرازي للطب النفسي، كيف أن هذا الأخير الذي يعتبر أول مركز استشفائي في هذا الاختصاص، أصبح لا يتوفر اليوم سوى على خمسة أطباء نفسانيين، بمن فيهم مدير المستشفى، فضلا عن النقص الكبير في عدد الممرضين والمساعدين التقنيين، والذين لم تعمل الوزارة على زيادة عددهم رغم إقدامها على ترحيل عدد من المرضى النفسانيين من «بويا عمر» استقبل منهم مستشفى الرازي نصيبا كبيرا.
ففي منتصف السنة الماضية، استقبل مستشفى الرازي للطب النفسي ببرشيد حوالي 50 شخصا من نساء ورجال، جلهم يتحدرون من مدينة الدار البيضاء ومدن مجاورة، في إطار عملية «الكرامة» التي أطلقتها وزارة الصحة، والتي تهدف من خلالها إلى إعادة الثقة لعائلات الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية، والتكفل بالمرضى النفسانيين نزلاء الضريح وعلاجهم بالمجان. وبعد التعرف على هويات المرضى المرحلين وتشخيص حالاتهم الصحية تم وضعهم بجناح خاص تمت تهيئته خصيصا لهذا الغرض، بعدما كان عبارة عن مخزن للمستشفى وسبق أن تم تحويله إلى قسم علاجي إبان عملية «الخير» التي تزامنت مع ما عرف بالغضبة الملكية على موظفي خيرية عين الشق سنة 2005، والتي جعلت مسؤولي الصحة بجهة الشاوية- ورديغة (سابقا) يسارعون وقتها من أجل إعادة إيواء حوالى 140 مريضا كانوا موزعين على قسمين تم هدمهما مخافة زيارة ملكية، وذلك بعد إعادة هيكلة وتحويل مطبخ المستشفى ومخزنه إلى قسم «أبو الحكم» الذي كان من المفترض أن يطلق عليه آنذاك اسم «باب الخير».
كان من المفترض أن يؤوي القسم الجديد- القديم «الكرامة» أو «أبو الكرم رجال»، نحو 140 نزيلا، لكن لم يبق من هذا العدد سوى حوالي 50 مريضا، فما يعادل نسبة 61 في المائة من هؤلاء قضوا نحبهم بحكم التقدم في السن.
جناح «باب الخير» الذي يؤوي 50 نزيلا من المرضى السابقين استفاد، في إطار جمعية، من دعم صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من نحو 50 مليون سنتيم من أجل تهيئته، لكن وإلى حدود الساعة لم يتم إبرام أي اتفاقية شراكة ولا إعداد أي دفتر تحملات وشروط من أجل التعجيل بإخراج هذا المشروع إلى حيز الوجود، ليظل نزلاء هذا الجناح يعانون عدة إكراهات أهمها غياب التجهيزات الضرورية.
هذا الوضع جعل عددا من المتتبعين يشعرون بالتمييز بين القادمين من ضريح «بويا عمر» والنزلاء السابقين بمستشفى برشيد، والذين لم يحظوا بأي عناية من الوزارة الوصية، في وقت كانوا ينتظرون بصيصا من الأمل مع إطلاق عملية «الكرامة»، قبل أن يفاجؤوا بأن الوزارة خصت المرحلين من «بويا عمر» فقط بإصلاح وبناء مصالح خاصة بهم، فيما تركت المرضى السابقين، وجلهم من المتخلى عنهم، يعيشون داخل مصالح تفتقد للشروط الضرورية للكرامة الإنسانية.
عدد من الأطر العاملين بهذا المرفق الاستشفائي خرجوا عن صمتهم، واصفين إحساسهم بـ«الاحتقار» من طرف وزارة الصحة وهم يستقبلون المرحلين من ضريح «بويا عمر» داخل جناح جديد وتجهيزات جديدة، في وقت لم تشمل عناية والتفاتة الوزارة المرضى السابقين والمتخلى عنهم، وهو ما يضرب عرض الحائط بمبدأ تكافؤ الفرص من ناحية الاستفادة من العلاج والاستشفاء الذي ينص عليه الدستور المغربي.
مع إطلاق عملية «الكرامة»، أصبح مستشفى الرازي للطب النفسي ببرشيد يتوفر اليوم على خمسة أقسام استشفائية، وهي «أبو جعفر» الذي يؤوي المرضي القضائيين، و«أبو السماح رجال» الذي يعرف اكتظاظا مهولا، و«أبو السماح نساء» الذي يتهيأ لاستقبال المرحلات من ضريح «بويا عمر»، و«أبو الحكم» أو «باب الخير» الذي يؤوي خمسين مريضا من المتخلى عنهم، وأخيرا قسم «الكرامة» أو «أبو الكرم» الذي سيؤوي المرحلين من «بويا عمر»، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول إلى متى سيبقى جناح «أبو الحكم» أو «باب الخير» وكذا جناح «الكرامة» أو «أبو الكرم» اللذان يؤويان العينة نفسها من المرضى المتخلى عنهم، تحت وصاية وزارة الصحة؟
«ما دام الأمر يتعلق بحالات اجتماعية من المفترض أن تتلقى الرعاية داخل مركز اجتماعي مستقل، في وقت نجد أعدادا كبيرة من المرضى النفسانيين والمتخلى عنهم، يغزون شوارع برشيد التي أصبحت مع مرور الأيام شبيهة بـ«بويا عمر» ومرضاها بدون سلاسل ولا قيود.. أليس من حقهم علينا اليوم تمكينهم من الاستفادة من عملية «الكرامة»، هذا المشروع الاجتماعي الذي تسهر عليه الجمعية؟ أليس من حقنا على المسؤولين أن لا نرى هؤلاء المرضى ينامون في الشوارع ويأكلون من القمامة؟»، يتساءل عدد من الأطر الطبية.
أما جناح “أبو جعفر” المخصص للنزلاء المودعين بأحكام قضائية أو بتعليمات من النيابة العامة لدى بعض محاكم المملكة، فقد أضحى، كما يصفه بعض المتابعين للشأن الصحي بالمدينة، شبيها بجناج داخل سجن خارج القانون وبعيدا عن مراقبة إدارة السجون.
مقبرة الأحياء
تدني الوضع داخل مستشفى الرازي لم يقتصر على التغذية، بل طال أيضا الخدمات المقدمة أو التي يستفيد منها المريض، ومنها توقف خدمات مصلحة سيارة الإسعاف بالمستشفى بسبب الأعطاب المتكررة والتي أصبحت معها هذه السيارة عبارة عن «خردة» بموقف حظيرة السيارات، بعدما صرف عليها ما يفوق 3 ملايين سنتيم، من دون أن تضع عجلاتها على الطريق، حيث أصبح الممرضون يجدون صعوبة في تدبير مسألة نقل أي نزيل إلى قسم المستعجلات بالمستشفى الإقليمي، ما يضطرهم في كثير من الأحيان إلى نقل الحالات المستعجلة بواسطة كراسٍ متحركة. الأمر نفسه يسري على آلات الغسيل بمصلحة التصبين بالمستشفى، والتي توقفت هي الأخرى عن العمل بسبب الأعطاب، في حين بقيت آلة واحدة من الحجم الصغير لفائدة 240 مريضا، مع ما يترتب عن ذلك من إكراهات في غسل الملابس والأفرشة، فضلا عن تعطل غرفة التبريد بالمطبخ، وما يصاحب ذلك من عدم إمكانية حفظ الأطعمة والخضر واللحوم وتعرضها للتلف، وكذا قلة الأسرّة والأفرشة والأغطية داخل المصالح الاستشفائية، التي تعرف اكتظاظا على مستوى مصلحتي «أبو سماح» رجال و«أبو جعفر» للطب الشرعي النفسي، حيث أصبح المرضى ينامون على الأرض في وضعية جد صعبة عكس ما يحظى به نزلاء «الكرامة».
مشكل التغذية يظل بدوره من المشاكل الكبيرة داخل مستشفى الرازي للطب النفسي ببرشيد، فقد تحدث عدد من الممرضين لـ«الأخبار» بمرارة كبيرة عن التغذية المقدمة للنزلاء، وكذا تلك التي تقدم للأطر الطبية، مؤكدين أن المكلفين بصفقة التغذية لا يقدمون للنزلاء وجبات لائقة، وتكون عبارة عن عجائن بدون مذاق ومرق بالخضر يستحيل أكله. الشركة المشرفة على التغذية، بحسب المتحدثين أنفسهم، تتكلف فقط بالطبخ، أما الخضر والأغراض الأخرى فيتكلف بجلبها المستشفى، والتي قالوا إنها تفتقد لأبسط المواصفات، حيث يبقى دور المحسنين مهما في تقديم المساعدات للنزلاء وهو ما يغطي جانبا من دور المسؤولين عن تدبير هذا المرفق.
كل هذه الأمور حملتها «الأخبار» إلى المندوب الإقليمي لوزارة الصحة ببرشيد، والذي اعتبر أن كل شيء يسير داخل المستشفى وفق تدبير محكم من طرف المسؤولين عن إدارته، وأن جميع المرضي سواسية في الأكل والأفرشة ولا فرق بين النزلاء، لتبقى الصور التي استطاعت «الأخبار» الحصول عليها وحدها تبين مدى الفرق بين نزلاء المستشفى ممن يعيشون شيئا من «الكرامة» ومن يفتقدونها ولا يجدون غير افتراش الأرض قبل الخلود إلى النوم، على أمل أن يستفيقوا وقد التفت إليهم مسؤولو قطاع الصحة بأفرشة تليق بآدميتهم.
وما زال عدد من الأطر الصحية ينتظرون التفاتة الوزارة الوصية إلى مستشفى “الرازي” للطب النفسي ببرشيد، الذي تأسس سنة 1928، وهم يستعيدون تلك الأيام حيث كان الكثيرون يتوددون لحارس بوابته ويدفعون له مقابل السماح لهم بولوجه من أجل الاستمتاع بمناظره الجميلة.