شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

اعتُقلت في “فضالة” وأنا طفل بسبب توزيع “العَلم” والوطنيون هرّبوني إلى الدار البيضاء

المختار الزنفري

يونس جنوحي

 

 

الفصل الأول:

1934-1952

شذرات من حياة بالأبيض والأسود

ربما هو الانتماء إلى قبيلة “الزنافرة”، بـ”حد ولاد افْرج”، ما جعل علاقتي بدكالة غير عادية منذ فتحت عيناي في هذه الحياة.

السنة التي وُلدت فيها، كانت عام 1934. ومنذ وعيتُ، وجدت نفسي متنقلا، غير مستقر. لا أذكر الكثير عن حياتي الأولى في “الزنافرة”. ولهذا الأمر أسبابه. وسوف آتي إلى ذكرها.

أستحضر أحيانا بعض المشاهد القاتمة من حياتي المبكرة، وأنا أطل الآن على سنتي الحادية والتسعين، وأحس بحنين لتلك الأيام وأناسها.

أما أجدادي “الزنافرة”، فقد ترسخت لدي فكرة عنهم، طالما حكاها لي والدي رحمه الله، الذي غادر الحياة مبكرا، في بداية سنة 1940، وأنا ابن ست سنوات، وسمعتُ بعض تفاصيلها عندما تقدم بي العمر وصرت قادرا على التمييز والإدراك.

 

 

الزنافرة..

حُكي لي أن أعمام والدي، كانوا مناصرين للسلطان مولاي عبد العزيز، ويعتمد عليهم “المخزن” في منطقة دكالة، واشتغلوا مع السلطان المولى الحسن الأول الذي توفي سنة 1894. وورثوا مهام “مخزنية” في القبيلة.

عندما أتى السلطان مولاي عبد الحفيظ، إلى الحكم، ووصل إلى مدينة فاس سنة 1908، قادما إليها من مراكش، بمعية المدني الگلاوي، وبُويع في فاس من طرف علماء جامع القرويين، باشر عمله سلطانا جديدا للمغرب من القصر الملكي في فاس. وعُرضت على السلطان الجديد مشاكل المغرب والانفلات الأمني في دكالة والصراعات بين أنصار السلطان عبد العزيز، الذي كان قد غادر فاس إلى طنجة الدولية، وأخيه السلطان الجديد مولاي عبد الحفيظ. وعندما سمع السلطان الجديد تداعيات الأحداث الدامية وتمرد بعض القبائل، أصدر أمرا فوريا لمعاونيه وقال لهم: “جيبو ليا الزنافرة”.

لكن مساعدي السلطان لم يفهموا الأمر السلطاني جيدا. فقد كان السلطان عبد الحفيظ يقصد أن يُحضر رجال “الزنافرة” إليه لكي يعملوا على إنهاء الانفلات. لكن بدل ذلك، وصلت قوات المخزن إلى قبيلتنا ووقعت مجزرة كبيرة راح ضحيتها أعمامي جميعا.

تعرض أعمامي للذبح، وقطعت رؤوسهم انتقاما. وعندما وصل الخبر إلى السلطان عبد الحفيظ رحمه الله نهى المخزنيين وسألهم من أعطى الأمر بقتل رجال “الزنافرة”، وحينها اكتشفوا الخطأ الذي وقعوا فيه، وأن السلطان كان يقصد إحضارهم لاستتباب الأمن في المنطقة، وليس تصفيتهم.

 

مع المولى عبد العزيز

كانت لدي عمة، رحمها الله، عاشت ردحا من الزمن في قصر السلطان المولى عبد العزيز الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1894 و1908.

كانت رحمها الله تحكي لي عن كرم مولاي عبد العزيز وانفتاحه، وترسخت لدي صورة في مرحلة مبكرة من حياتي عن السلطان. وبعد مغادرة مولاي عبد العزيز القصر الملكي في فاس، عادت عمتي إلى كنف العائلة وتزوجت، وعاشت حياتها مؤمنة وتميزت بشخصية غير عادية.

كانت زياراتها بالنسبة لي، موعدا لاستعادة أيام علاقة أجدادي بالمخزن، وطالما تأسفت لكون العائلة فقدت أرشيفا مهما يؤرخ لهذه المرحلة، بسبب الأحداث الدامية في زمن “السيبة”.

 

 

يُتم مبكر

والدي كان مُحبا وعطوفا. ابن الزنافرة، ويحمل حُبا خاصا للقبيلة والتقاليد. عشتُ اليُتم مبكرا. فوالداي لم يكونا على وفاق في سنوات طفولتي الأولى، وحدث أن تطلّقا، واستقل كل منهما بحياته.

أما قصة زواج والدي من والدتي فتستحق أن تُروى. فقد أنجب والدي من زواجه الأول، ولدين وبنتين، ثم توفيت زوجته، وكان وقتها يقطن في الجديدة. وكانت تقاليد ذلك الزمان، تقتضي أن يتزوج الرجل أخت زوجته الراحلة، لضمان رعايتها لأبنائه، بحكم أنها خالتهم، قبل أن تكون زوجة أبيهم.

وهكذا تزوج والدي من والدتي ولم يكن عمرها وقتها يتجاوز 13 سنة فقط. وسرعان ما تطلقا وأنا طفل صغير، فتقرر أن يتم نقلي من مدينة الجديدة التي رأيتُ فيها النور سنة 1934، إلى قرية جدتي لوالدتي، لكي ترعاني، فقد أتت لأخذي مع والدتي من بيت الوالد في الجديدة.

بقيت في البداية في كنف جدتي، في دوار “مزِيود”، في بادية “ولاد فْرْج”. تزوجت والدتي بدورها، وأنجبت إخوان وأخوات لي. لكني كنتُ دائما مستقلا بحياتي.

كان والدي يرعاني رعاية خاصة، حتى بعد ما تزوج بامرأة أخرى. وواظب على تفقدي، وكان يأتي إلى بيت جدتي ويستفسر عن أحوالي، ويأخذني أيضا لكي أرى إخوتي الآخرين. وأستحضر لقطات متفرقة له وهو يحضنني بسلهام صوفي ثقيل، ويقول لي: “ها الرضى”.. ويؤثرني على إخوتي، ولا يكف عن إسداء النصح لي في تلك الظروف العصيبة التي وُلدت فيها، في ظل وجود فرنسا واحتلالها للبلاد.

من الدروس التي ترسخت في ذهني في تلك المرحلة المبكرة، درس لقنه لي عمي. فقد اصطحبني والدي مرة لكي أحضر زفاف ابنة عمي. وكان قد تقدم لخطبتها شابان. الأول كان أحد أبناء الأعيان والتجار المعروفين في الجديدة، وكان ثريا. بينما المتقدم الثاني لخطبتها كان يشتغل “حجّام” (حلاقا). لكن عمي رحمه الله، وكان رجلا حكيما، اختار أن يزوج ابنته من الحْجّام وليس من التاجر. فاستنكرتُ هذا الأمر وأنا طفل صغير بحضور والدي وعمي في مجلسهما، وقلتُ لعمي لماذا لم تزوج ابنتك من التاجر. فأجابني رحمه الله أن ابنته سوف تكون بخير مع الحجام الذي يملك حرفة بين يديه، وأنها سوف تأكل ولن تجوع ما دام زوجها يملك حِرفة يضمن بها قوت يومه. بينما مع ابن التاجر يمكن أن يدور الزمن دورته وتنقلب حياته من الغنى إلى الفقر.

توفي والدي وأنا ابن السادسة، وأذكر أنني كنت وقتها أدرس في الكُتاب، وبلغتُ “سورة طه”، في حفظ القرآن الكريم. خلّف موت والدي لدي جرحا غائرا، وتضاعف لدي ذلك الإحساس باليُتم.

وقُدر لي أن أحضر وفاته رغم أنني كنت أعيش في منزل جدتي. فقد أخذوني لأزوره، وكان على فراش المرض، وبقيت بجانبه إلى أن مات. وهنا بدأ فصل آخر من حياتي.. فصل مختلف تماما.

 

ولادة أخرى.. سياسية هذه المرة

كنت متمردا منذ طفولتي، وأستطيع القول إنني لم أكن أحسب العواقب.

وفاة والدي وأنا ابن السادسة، جعلت عودي يشتد. فلم ألجأ إلى إخوتي لكي يعيلوني، رغم أنهم كانوا يكبرونني سنا. بل قررت منذ ذلك اليوم أن أشق طريقي بنفسي، وأبحث عن حياة أفضل.

وهكذا عشتُ لفترة متجولا، وأستطيع القول إنني تعرفتُ على السياسة لأول مرة في تلك المرحلة وأنا ابن العاشرة تقريبا.

سمعتُ خطابات حزب الاستقلال ما بين سنوات 1944 و1945، وأنا ابن العاشرة، في مدينة الجديدة. فأعجبتُ بها، واعتنقتُ السياسة سريعا. وكان أول نشاط سياسي أمارسه، هو توزيع المنشورات التي يعممها حزب الاستقلال في مدينة الجديدة لتوعية المواطنين بالقضية الوطنية، ثم توزيع أعداد صحيفة “العَلم” التي كان مجرد ذكرها في ذلك الوقت، يجر المشاكل على صاحبه.

تطوعتُ لكي أنقل بعض النسخ من صحيفة العَلم من الجديدة، إلى “فضالة” -الاسم القديم لمدينة المُحمدية حاليا- وهناك عشتُ مغامرة غيّرت حياتي إلى الأبد.

 

فْضالة..

لا أذكر كم كان عمري عندما اعتُقلت لأول مرة، لكني متقين أنني كنتُ في الرابع عشرة، أو دونها بقليل. أي في سنة 1948..

كان تداول جريدة “العَلم” ممنوعا. وبحكم حماسي واندفاعي، فقد تطوعت لكي أنقل بعض نُسخ الجريدة في “فْضالة” بعدما سمعتُ في الجديدة أن تداول صحيفة العَلم ممنوع فيها. وسمعتُ أن قيادة حزب الاستقلال يبحثون عمن يوصل الجريدة إلى مناضلي الحزب في فضالة، وكانت النُسخ التي بحوزتي قليلة، وتطوعتُ لنقلها، دائما غير مُدرك لعواقب ما كنت أقدم عليه، لكن النسخ على قلّة عددها، إلا أنه كان كافيا لاعتقالي، متلبسا بحمل “أداة الجريمة”.

ولسوء حظي، أو لحُسنه، كانت سيارة البوليس الفرنسي، ولا زلت أذكر شكلها إلى اليوم، تمر من الشارع الذي كنت أستعرض فيه أعداد الجريدة لبيعها.

كان سائق السيارة، التي تشبه شاحنة متوسطة الحجم، فرنسيا. لكن كان يركب بالقرب منه عون سلطة مغربي، أعتقد أنه كان “مْقدّم”. وما أن لمحني حتى توقف على الفور، واعتقلني، وبقيت محبوسا في مؤخرة الشاحنة بعد أن ركن الشرطي الفرنسي السيارة وانصرف.

اهتديت إلى فكرة ونفّذتها على الفور. ولن أنس ما حييتُ ذلك المشهد. فقد قفزتُ إلى أعلى عربة البوليس الفرنسي، وشرعتُ ألوّح بنسخ “العَلم”، وأنا ألبس معطفا ثقيلا ومترهلا، وأدعو الناس لشراء الجريدة، وسرعان ما تجمهر حشد حولي.

في تلك اللحظة عاد “المْقدّم” إلى المكان، فوجدني على تلك الحال. وتوعدني بالعقاب، بل “بشّرني” بأن عقابي سيكون عنيفا.

أخبرني ذلك “المْقدّم” أنني سوف أمثل أمام الباشا في صباح اليوم الموالي. ولم أسجن على الفور.. ربما بسبب حداثة سني في ذلك الوقت، لم يفكر الشرطي الفرنسي في اعتقالي، لكن “المقدّم” تكلف بمهمة إرهابي. وفعلا جئتُ في الموعد المحدد ولم أفكر في الهروب.

قبل أن أصل إلى مقر الباشا، مررتُ بدكان، واشتريتُ خبزتين، تأبطتهما تحت المعطف. فقد قلت في نفسي إنني ربما قد أحس بالجوع وأنا في “الحبس” عند الباشا. وكذلك كان.

بمجرد ما أن علم الباشا أنني أنحدر من مدينة الجديدة، تعاطف معي وقرر ألا يعاقبني. حاول إفزاعي بعواقب ما سيحدث لي إن أُلقي القبض عليّ مرة أخرى وتوعدني بقطع رجلاي معا حتى لا أقوى على التجول وبيع جريدة “العَلم”.

لم أصدق أذناي عندما سمعتُ الأمر بمغادرة مكتب الباشا، فقد كنت أعتقد أنني سوف أُسجن بسبب فِعلتي تلك.

ما أن غادرتُ المكتب، وجدتُ رجلا واقفا بمحاذاة الباب، وقبل أن أتجاوزه، أمرني أن أتبعه دون أن أثير الانتباه.. فتبعتُه.

تناهى إلى مسمع الوطنيين ما حدث لي، فقرروا أن يتم تهريبي من فضالة، لكي أبقى بعيدا عن أعين الباشا والمقدّم، وحتى لا يطولني العقاب هناك مرة أخرى.

وتقرر أن يتم نقلي إلى الدار البيضاء. وتكلف الرجل الذي كان ينتظر خروجي من مكتب الباشا، بنقلي إلى الدار البيضاء بنفسه.

لم أكن أعرف أن تلك الواقعة سوف تكون تذكرة سفر لي إلى الدار البيضاء، وبالضبط إلى “درب السلطان” ثم “الكاريان سنطرال”.. الحي الذي تنفسنا فيه الوطنية وحب الوطن.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى