شوف تشوف

الرأي

إن عاش

هو إحساس بالخوف والصدمة ذلك الذي ينتابني، فيشلني عندما أعلم بموت مريض كان يرقد على بعد خطوات مني. تفترسني فكرة أن الملك المكلف بموتنا، الذي وجد هو كي ننعدم نحن، مر بجانبي، رآني، ومارس عمله، تماما كما يمارس طبيب الإنعاش عمله في المنحى المعاكس.. لقد تم رفع الروح، لقد أذن لها بالخروج، لقد أعلنت نهاية أسطورة هذا الرجل الذي سطرها في مكان بعيد وجاء لينهيها بالقرب مني، رفعت الأقلام وجفت الصحف، أما صحيفتي فمازالت تدون..
كطالبة طب كان المرور بمصلحة بالإنعاش أصعب اختبار وضعت فيه، عشت فيه جميع حالات الألم والفرح والرضا والأسى، الخوف والأمل، الانبهار والعجز، صعوبة التنفس، ومشاكل الهضم، كل ذلك.. في نفس اللحظة والآن والثانية. تٓحمِلنا السعادة على أجنحة من ذهب حين يتعافى مريض جاء في أسوأ حالة وأصعبها وتخنقنا بالكآبة بيد من فولاذ عندما يقضي أحدهم أجله ويرحل بعد أن كتب أسطر خاتمته..
هناك حيث تصبح الحياة مرتبطة بمجموعة أجهزة وعلب أدوية، أستيقن أني ضعيفة لدرجة البؤس، ضعيفة لدرجة أنه يمكنني الدخول في غيبوبة تأخذني بعيدا عمن أحب فلا أستطيع التنفس بدون جهاز، فقط  إذا أعلن فيروس مجهري عن ثورته القاتلة داخل جهازي العصبي.. أو ارتفعت جزيئات السكر البئيسة في دمي، يمكن أن تجعلني أنا وخيالاتي وتصوراتي، جثة هامدة،  كائنا لا قدرة له، لا شيء يملكه، حتى جسمه يصبح تحت رحمة الطبيب وحقنة الممرضة.. جثة ترقد لا حول ولا قوة لها، تستعين بآلة لعيش وبمحاليل لتتغذى.. تكتشف حينها أننا بكل هيلماننا وتكبرنا وغطرستنا فنحن مثيرون للشفقة بشكل خرافي..
حين يصفعني الموت، أوقف دمعتي بصعوبة، فلا مجال للضعف في وجه القدر.. أتعايش، أقمع دمعتي على حافة الطريق، أكتفي بالقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله، لا راد لأمره، أتظاهر بأني فعلا بخير، وعميقا أشعر بشلال الدموع يغسل قلبي.. أعرف أن الأمر سيصيبني في عزيز آجلا أم عاجلا، هو الموت الذي نهرب منه إليه!
كطاقم عمل وتدريب في مصحة يستوي فيها الموت والحياة.. كنا لا نعرف فعلا كيف نترجم ما نحسه وقد تعافى أحدهم بعدما ظن الجميع أن خروجه من هنا أمر يحتاج معجزة، فيغادر تلك المصلحة الباردة ذات الاسم المخيف.. يخرج ووجهه مليء بجميع تعابير النجاة، يدعو بالخير للجميع، يشكر الجميع ويعتذر للجميع، وكأنه هو المسؤول عن مصابه.. يبتعد وبابتعاده يكون قد منح طبيبه ثقة أكبر وفخرا أعظم..
تعيش مع المريض أصعب أيام حياته، ولم  تربطك به صلة سوى المرض، وأحيانا تكون آخر وجه ينظر إليه وهو يسلم الروح لصانعها.. تكون أنت بجانبه لا ولده ولا أبواه، تمسك يده وتحرضه على المقاومة، تحرضه على الحياة، وقد تعلم أحيانا أنه لا أمل، لكنك بطبع الإنسان فيك تصر على أن تكمل ما بدأته حتى آخر رمق.
أحيانا يكون الطبيب هو من في حاجة لمرضاه، قبل أن يكونوا هم في حاجة له، يحتاج نظراتهم المليئة بالثقة، لدعواتهم المشبعة بالصدق، لأصواتهم المقترنة بالرقة، للمعان أعينهم المشع بالأمل، لقوتهم التي تدفعه للبحث عن المعجزات، لإصرارهم الذي يقوده للنجاح، يحتاج دعمهم ليستمر، فقبل أن يشفوا على يديه هو يحتاج لثقتهم فيه كي يصل مبلغ الإحسان في علاجهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى