إلى أين تسير هذه الحكومة؟!
من البديهي أن تاريخ الحقيقة، هو ذاته تاريخ الشراسة، لأنه يشبه قدر الحرية الذي يتكون في أعماق الحرب والثورة، ولذلك فإن من يعشق الحرية هو ذاته من يحب الحقيقة، نجده دائماً: «مقدماً، خفيفاً متلهفاً قلقاً». إنه شخص جذاب، يثير الإعجاب، يستمد قوته من المباغتة، مندهش ومتسائل بقرب الانكشاف على نور السؤال. فما معنى قوة التفكير في الحقيقة؟ وما الذي تعمل على إظهاره؟ وما هو مسارها؟ الحقيقة والفكر قدر واحد بطرق مختلفة، نداء مزدوج يردد نشيد الوجود، متلهف إلى ميثاق الحرية، انطلاقا من المعارضة الفكرية التي غالباً ما تكون ملفوفة في هبة النقد الفلسفي التنويري، الذي يعيد إنتاج الحقيقة حسب متطلبات روح العصر وتماشياً مع كرامة الإنسان، الوريث الحقيقي للوجود، ومن الضروري أن يرعاه بعنايته، مسايراً لمبدأ مساواة الإنسانية أمام حقيقة الوجود. فمتى يصبح الإنسان العربي حارساً لمسكن الحقيقة؟ بل متى ستصبح حقيقة الإنسان هي نفسها حقيقة الوجود؟ وهل يستطيع أن يحترم العقد الاجتماعي الذي وقعه مع الحقيقة؟
وبهذه الأسئلة نضع أنفسنا في أعماق جراح الحقيقة، وينبغي أن نشهد تلك الشهادة التي تدل على الكشف والإفشاء، وقبل فوات الأوان، وتصبح هذه مجرد ذكرى محطمة على براءة تربة الروح. وجوهرها الحميم، وبخاصة وأن الحقيقة ليست مجرد زينة تصاحب ماهية الإنسان، وتشهد على وجوده في الوجود، كما هو الحال بالنسبة للغة التي بدونها لن يستطيع أن يسمي الأشياء ويعبر عن تجاربه، فالحقيقة هي المكيال الذي يزن به الخطأ والصواب. فبدلا من أن تختفي الحقيقة وراء حجاب الخطابة، يجب أن تضع نفسها رهن إشارة الوجود الإنساني، ومن طبيعة الفكر الذي هو ثنية تجمع الإنسان بالوجود، أن ينجز هذه العلاقة بين الإنسان والحقيقة وبما أن مذاق هذه العلاقة لا يرقى إلى مقام الروح إلا باللغة: «واللغة هي مأوى الوجود، حيث يقيم الإنسان، والفلسفة والشعراء يحرسون هذا المأوى». أما الحقيقة فإنها الانكشاف والانفتاح على نور هذا المأوى الذي يستضيف الروح ويحرضها على القول بقدر الفكر في مملكة الحقيقة، وما يدعو إلى الدهشة هو أن الشعوب التي فقدت القدرة على التفكير، فقدت أيضاً الحق في الإقامة في مسكن الحقيقة: «ومثل هذا الفكر لا أثار له على الحقيقة».
والحال أن الفكر بالنسبة إلى هايدغر هو المهندس الذي يقوم ببناء مسكن الوجود، هذا المسكن الذي يحمي الإنسانية من الانقراض، ولذلك نجده يقول: «إن الفكر يعمل على بناء مسكن الوجود، مسكن يفرض الوجود من خلاله حقيقته على الإنسان فماهية الإنسان قدرها هو الإقامة في حقيقة الوجود»، ولعل السكنى، أو الإقامة هي ماهية الوجود في العالم، كما جاء في الوجود والزمن، وبما أن الإنسان لا يختار قدره، فإن الإقامة الشعرية على الأرض لا تكون إلا بواسطة الإصغاء لنداء الوجود، والتفكير بأصالة في حقيقة السكن في المسكن، في حميمية هذا النداء الذي يتم من خلال اللغة، باعتبارها مأوى الوجود، يحقق الإنسان إنسانيته، ومن أجل رفع الغموض ينبغي التأمل في لعبة الأدوار بين الإنسان والوجود واللغة، فالإنسان حين يملك اللغة يستحق السكن في حقيقة الوجود، مادام أن الوجود في أمس الحاجة إلى السكنى، ولذلك يتجه نحو مأوى اللغة، ويبقى أن حارس هذا المأوى هو الإنسان. ها هنا يتمكن النور من اختراق الرؤية، وبانفتاحها على شاعرية الإقامة في الوجود، يصبح الاهتمام هدفها، مما يسمح للفكر بالظهور.
لأن الفكر، هو فكر الوجود، الابن الذي يأخذ مسافة لكي يتأمل ماهيته، وقول: «إذن سأتكلم. أنت أصغ واحفظ عباراتي التي ستعلمك ما هما طريقا البحث الوحيدان اللذان يمكن لنا تصورهما. الأول يقول أن الوجود موجود، إنه لطريق اليقين، يرافق الحقيقة، والطريق الآخر هو: «ليس الوجود موجوداً. إن هذا الطريق هو درب ضيق. إنه ليس بإمكاننا أن ندرك اللاوجود بالفكر، لأنه خارج متناولنا، كما لا يمكن أن نعبر عنه باللغة، وفي الحقيقة أن الفكر والوجود هما نفس الشيء». لكن كيف يمكن أن نفهم عبارة، الفكر والوجود هما نفس الشيء؟ هل معنى ذلك أنهما يمثلان الوجه الآخر للحقيقة؟ وأين يوجد هذا الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة؟ والحال أن هذا الطريق الأبدي لن يكون شيئاً آخر سوى ماهية الإنسان، لأنه إذا كان الإنسان أحد موجودات العالم، فإنه يوجد كثنية تجمع الموجود بالوجود. وفي قلب هذه الثنية يصبح الوجود في متناول الفكر، الذي هو مكتشف قارة الحقيقة، لكن لولا هذه الطية لما اكتشف علاقته بالوجود، وأصبح مطالباً بالتفكير في ماهيته من خلال هذه الثنية، وهذه هي أنبل مهمة للإنسان الحكيم. فكلما كانت الأمة تتوفر على الحكماء، كلما كانت تقيم في حقيقة الوجود، وشعرياً على الأرض لقد اختفت هذه الطية في الفكر العربي منذ موت ابن رشد، ولذلك حكم عليها بالنسيان، وبمجرد نسيانها تم نسيان الوجود، ولم يعد الفكر فكر الوجود، ولا هو طريق نحو الوجود، بل أضحى فكراً خطابياً يصارع ويعاند من أجل الانتصار، هكذا لفه النسيان وحرمه من الوعي التاريخي، بعدما فقد إقامته في حقيقة الوجود، هكذا يكون الفكر العربي قد جرب هذه الإقامة لمدة قصيرة إلى أن جاء الغزالي وحكم عليه بالإفراغ، ومنذ ذلك الوقت وهو يبحث عن الإيجار.
ومع ذلك نتساءل، أين اختفت هذه الثنية؟ هل سقطت في النسيان؟ أم تم تدميرها بعلم الكلام؟ بل هل هي نداء للوجود لم يعد يسمعه الفكر التيولوجي؟ أم الحقيقة؟ أم قدر أرغم على التيه في ظلام هذه القرون؟
لا أريد لهذا الفكر الشقي، أن يستمر في شقائه ويحتفل بعصر المأساة، بل ينبغي عليه أن يستيقظ من سباته الدغمائي ويجدد اتصاله بالعقل التنويري، إذا كان يرغب في استرجاع الوعي بالذات. والتحرر من الوعي الشقي، ذلك أن سنوات العبودية أفقدته القدرة على الحركة، ولم يعد فكراً جدلياً يحاور التطور التاريخي، انطلاقا من انصهاره في علم الموجود بما هو موجود، لأن الاحتفال بالوجود وحده سيحرر الفكر العربي من سلاسل العبودية.
فمن خلال ثنية الوجود تتم عملية إنتاج الفكر، إلى أن يصبح معبراً عنه باللغة التي تسمح بامتداد الوجود أمامنا، وبمقدار ما نفكر في ماهية اللغة بواسطة الكلمات، باعتبارها امتداد للمدى، بقدر ما نصل إلى لمس قلب الحقيقة المستدير والذي لا يلين إلا بواسطة الفكر ولذلك: «لا يهمني كثيراً من أين أبدأ، إذ أن لي عودة إلى هناك، لأن حب العدالة والحقيقة يكفي للابتعاد عن الطريق الذي شقته الكائنات الفنية».
مهما يكن زمن المأساة طويلاً مرعباً للروح التي فقدت الطمأنينة والسكينة والروعة، فإن عودة الفيلسوف كمفكر عظيم عاش في غسق بداية الفكر الذي ينطوي في ظلال تلك الثنية التي منحت قدرها لفكر الإنسان الإنساني، على الرغم من أن هذه القدرة حكم عليها بالإقامة الإجبارية في سعة الصمت. ولم يعد هناك ما يحفز على التفكير، لأن كل شيء جاهز، لا يتطلب المعاناة، فالوجود مخلوق، والحقيقة موروثة، وليس هناك ما يستدعي البحث، والأشياء التي ظلت في الغموض يجب إلحاقها بالعدم الذي يحفظ سر كشف الحجاب عن وجه الحقيقة الرائع.