شوف تشوف

الرأي

إذ يصبح التطبيع بديلًا عن التحرير (1/2)

حين رفض لاعب «الجودو» المصري إسلام الشهابي مصافحة خصمه الإسرائيلي في أوليمبياد ريو، فإن الصورة ذكرت الجميع بفريضة المقاطعة التي تعرضت للطمس والنسيان. كما لفتت الانتباه إلى حقيقة مشاعر المواطن المصري العادي الذي لم يشوه ولم ينس. وإذا كان الإسرائيلي هزمه في المباراة، فإن اللاعب المصري انتصر أخلاقيا واستحق الميدالية الذهبية من الضمير العربي الذي لم يمت.
تزامن ذلك مع اللغط المثار حول مشاركة اثنين من الفنانين المصريين (هما خالد النبوي ونسمة درويش) في فيلم أمريكي باسم «الطاغية»، مع أحد الممثلين الإسرائيليين. وهو ما فتح باب الجدل حول الصواب والخطأ في ذلك. كما أنه تزامن مع صدور بيان المثقفين الخليجيين الذي حمل عنوان «سعوديون ضد التطبيع»، ودعا الدول الخليجية إلى الالتزام بمقاطعة إسرائيل.
وكان ذلك من أصداء الزيارة التي قام بها وفد سعودي لإسرائيل واجتماع أعضائه مع بعض المسئولين في القدس.
ومن المصادفات أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ألغى هذا الأسبوع اتفاقا مع ماليزيا عقده عام 2013 لاستضافة مؤتمر دولي في العاصمة «كوالالمبور» في العام المقبل (2017).
وكانت إسرائيل قد تقدمت بشكوى للفيفا اتهمت فيها ماليزيا بالتعنت في منح تأشيرات الدخول للإسرائيليين، كما أنها ترفض رفع العلم الإسرائيلي في المؤتمرات الدولية.
وفي تعليق رئيس الوزراء الماليزي أحمد زاهد حميدي على ذلك، قال إن استضافة وفد إسرائيلي في ماليزيا يجرح مشاعر الشعب الماليزي المتعاطف مع القضية الفلسطينية.
وفي التقرير الذي بثته حول الموضوع وكالة الأناضول للأنباء في 13/8 أن فريق «الشباب» الإسرائيلي للتزلج الشراعي اضطر للانسحاب من المسابقة الدولية التي نظمت في ماليزيا خلال شهر ديسمبر 2015، بسبب رفض السلطات منحهم تأشيرات للدخول.
لي تجارب تذكر في هذا السياق. منها أنني حين كنت أعمل بجريدة «الأهرام» ذهبت إلى مدير قسم المعلومات ذات صباح، وألقيت عليه التحية وصافحته هو وضيفا كان معه. وحين تعارفنا ذكر أن الضيف هو الملحق الثقافي بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة
وهو ما فوجئت به، فقلت للرجل إنني لو علمت بذلك لما صافحته وأعتبر أن ما فعلته كان خطأ تمنيت ألا أقع فيه.
فوجئ الملحق الإسرائيلي بما قلت فابيض وجهه وتصبب عرقا ثم جلس دون أن ينطق (علمت بعد ذلك أنه نقل القصة إلى جهاز أمن الدولة ووزارة الخارجية المصرية).
حدث شيء من ذلك القبيل حين رفضت المشاركة في الوفد الذي رشح للحوار مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما أثناء زياته الشهيرة للقاهرة.
وقبل ذلك قاطعت مؤتمرا حواريا في مدريد بعد وصولي إلى العاصمة الإسبانية، حين فوجئت بأن شمعون بيريز على رأس وفد إسرائيلي (كان وزيرا للخارجية آنذاك).

ملف التطبيع بات يحتاج إلى حديث صريح. أولا لأن المصطلح صار فضفاضا بحيث لم يعد التطبيع موقفا واضحا ولا محسوما، ولكنه صار موضوعا للاجتهاد يحتمل تعدد وجهات النظر.
ثانيا، لأن مكتب مقاطعة إسرائيل التابع لجامعة الدول العربية أصبح يضم مجموعة الموظفين وبعض قطع الأثاث ولم يعد له نشاط يذكر بعدما أدارت له أغلب الأنظمة العربية ظهورها، بحيث أصبح كيانا ينتمي إلى الماضي ومقطوع الصلة بالحاضر.
ثالثا، لأن عددا غير قليل من الدول العربية تجاوزت فكرة المقاطعة بعد المصالحات التي عقدتها مصر والأردن، فذهبت إلى أبعد في التعامل مع إسرائيل أمنيا وسياسيا واقتصاديا.
رابعا، لأن رياح التطبيع صارت قوية هذا العام الذي طرحت فيه فكرة «السلام الدافئ» مع إسرائيل بديلا عن السلام البارد الذي ظل مخيما منذ عام 1979 (تاريخ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل).
خامسا، لأن الانفتاح التدريجي الخليجي على إسرائيل صار يمهد للتطبيع الرسمي الأمر الذي يرشح العام المقبل (2017) ليكون عام التطبيع العربي الرسمي معها. وأغلب الظن أن المبادرة العربية التي جرى إحياؤها هذا العام ستكون الغطاء أو الثغرة التي تحقق ذلك الهدف.
سادسا، لأن متغيرات الخرائط السياسية في منطقة الشرق الأوسط أفادت إسرائيل. ذلك أن انهيار النظام العربي، وانكفاء مصر على أوضاعها الداخلية والفوضى التي حلت بسوريا والعراق وليبيا واليمن،
هذه العوامل شجعت إيران على التمدد في المنطقة. وكان ذلك سببا رئيسيا للتخوف والقلق، الأمر الذي دفع البعض إلى الانشغال بمخاطر التدخل الإيراني عن خطر الاحتلال الإسرائيلي. وهي أجواء أحسنت إسرائيل استثمارها، بحيث نجحت في اقناع الأنظمة العربية بأمرين، أولهما أن إيران هي العدو، وثانيهما أنها تصطف إلى جانب دول الاعتدال العربي في معركتها ضد الإرهاب.
المفارقة التي غيبتها التعبئة الإعلامية والسياسية، أن ما سمي بالخطر الإيراني يظل في أبعد فروضه مجرد طموحات غذاها الفراغ العربي، في حين أن الخطر الإسرائيلي واقع ماثل على الأرض، بمعنى أن الأول احتمال في حين أن الثاني حقيقة.
إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل صورت نفسها في صف دول الاعتدال العربي في حين أنها تواصل مخططاتها الاستيطانية وقمع وإذلال الشعب الفلسطيني، ثم إنها ادعت أنها تحارب «الإرهاب» الذي هو في النظر الإسرائيلي يتمثل أساسا في الوجود الفلسطيني وانتفاضات الفلسطينيين لمقاومة الاحتلال، في حين أن الإرهاب عند الأنظمة العربية يتمثل أساسا في جماعات التطرف والعنف، وبعضها يضيف المعارضة السياسية ضمن ما سمي بأهل الشر.

إذ يصبح التطبيع بديلًا عن التحرير

2/2

الدنيا تغيرت، وعالم الخمسينيات والستينيات اختلف عن عالم الألفية الثانية. وذلك يقتضي إحداث تغيير في الخطاب والحسابات ووسائل إدارة الصراع.
هذا كله صحيح من الناحية النظرية. غير أن تنزيل الفكرة على الأرض يطرح عدة أسئلة على رأسها السؤال التالي:
ما الذي تغير في ملف الصراع بحيث استدعى إعادة النظر في موقف المقاطعة الذي تقرر منذ عام 1951؟
الإجابة المنصفة على السؤال تقول إن الموقف الإسرائيلي الأساسي لم يتغير، بل إن السلطة ازدادت تمكينا وشراسة وجرأة في سعيها للتمدد والاستيطان وقهر الفلسطينيين وحصارهم. كما أن المجتمع ازداد يمينية وعداء للفلسطينيين والعرب.
وهو ما تشهد به فتاوى الحاخامات وجرائم المستوطنين وتزايد معدلات حضور الأحزاب الدينية الموغلة في التطرف في الحكومة والبرلمان (الكنيست).
وبينما أن الطرف الإسرائيلي ازداد استعلاء واستكبارا، فإن الطرف العربي ازداد تشرذما ووهنا. وهو ما تجلى في جوانب عدة كان بينها الموقف من المقاومة ومن التطبيع. الأمر الذي دعاني إلى القول في مرة سابقة بأن العرب الذين أعلنوا في الماضي أن فلسطين قضيتهم المركزية، أصبحوا الآن عبئا على القضية. بل زعمت بأن أكبر خدمة تقدمها الأنظمة العربية الراهنة للقضية هي أن ترفع أيديها عنها وتكف عن العبث بها.
ومن المفارقات أنه في حين دب الوهن في أوصال الدول العربية بحيث فقدت حماسها وضعفت فيها المقاطعة، فإن حركة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل (بي. دي. إس) برزت في الغرب وحققت نجاحات لا بأس بها منذ إنشائها عام 2005.
إذ انطلقت من موقف أخلاقي استلهم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كنج وحركة النضال ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا.
والثابت أنها أزعجت إسرائيل لدرجة أن الكنيست استنفر ضدها وأصدر لها في عام 2011 قانون المقاطعة لملاحقة الداعين إليها،
وقد وافقت عليه المحكمة العليا في عام 2015.
مع ذلك صار معلنا وواضحا أن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها ــ حققت نجاحات نسبية في أوساط مختلف الأجيال في الغرب، لأسباب تتعلق بعدالة القضية والموقف الأخلاقي إزاءها. وثمة حملة مضادة لها في الولايات المتحدة أدت إلى حظر المنظمات الداعمة للحقوق الفلسطينية ومنها منظمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» بجامعة نورث إيسترن في بوسطن. كما أدت الحملة إلى إصدار أحكام قضائية ضد الطلاب الناشطين في ذلك المجال وهو ما حدث في كاليفورنيا.
خلاصة الكلام أنه بينما استمرت جريمة الاحتلال، فإن فكرة المقاطعة تراجعت.
وهي التي كانت الحد الأدنى للمقاومة وورقة التوت التي سترت عورة العجز والهزيمة.
وما كان لذلك أن يحدث لولا تراجع فكرة التحرير ذاتها، منذ ابتذلت وتحولت إلى غطاء للتنسيق الأمنى مع إسرائيل، أو إلى عنوان تاريخي بغير مضمون يتجسد على الأرض.

في هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن توقيع السادات لمعاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979 حقق ثلاث نتائج غاية فيي الخطورة في مسيرة الصراع، الأولى: أنه أخرج مصر من قيادة الصف العربي.
الثانية: أنه فتح الباب لإضعاف فكرة التحرير لصالح التمهيد للتطبيع.
الثالثة أنه حول السلام من رسالة نضالية إلى عملية تفاوضية وهمية بلا هدف أو أجل.
وإذا ذهبنا فى التحليل إلى أبعد وأعمق، سنجد أن الوهن الذي أصاب الصف العربي وبروز خيار التطبيع بديلا عن التحرير يمثل عرضا لمشكلة أكثر تعقيدا. إذ يتعذر أن نفصل بين حدوث ذلك الانكسار وبين تزايد النفوذ الأمريكي والغربي في العالم العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي وعقب سقوط الاتحاد السوفييتي في التسعينيات.
ولا ننسى أن السادات الذي وقع اتفاقية «السلام» مع إسرائيل هو من قال أكثر من مرة إن 99٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا.
إذا صح ذلك فهو يعني أن التحرير الحقيقي لفلسطين لن يتم إلا بتحرير الإرادة العربية من النفوذ الغربي.
وذلك يسلط الضوء على الأهمية البالغة لاستعادة الديمقراطية في العالم العربي، كما أنه يفسر الاحتشاد الذي تم بين عناصر الثورة المضادة وبين القوى الرجعية للانقضاض على الربيع العربي والعمل على إفشاله. وكانت نتائج ذلك الانقضاض واضحة في دفع حركة التطبيع، حتى اعتبر بعض الحاخامات أن ما جرى كان معجزة إلهية أرسلتها المقادير لإسرائيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى