إبراهيم الروداني منع اغتيال الباشا الكلاوي في الدار البيضاء.. وهكذا اقتنيتُ «مسدسي» الأول

يونس جنوحي
عندما لعبنا في الرباط
المسرحيات التي أدتها فرقة «الكاريان» كان مصيرها لا يختلف نهائيا عن مصير أصحابها، أو بالأحرى الممثلين الذين أدوا أدوار شخصياتها. الجميع التحقوا بزاوية النسيان وتآكلوا ببطء. وللأسف لم يُكتب أن يتم تسجيل هذه المسرحيات ولو صوتا، ولم تُكتب نصوصها أيضا لكي تبقى على الأقل توثيقا لهذه التجربة المنسية.
بلحرشة، الذي كان رئيس الفرقة، كان ينحدر من منطقة المذاكرة، ومهنته الأصلية، كان يُصلح الساعات ويبيعها. أي أنه كان رجلا بسيطا. ورغم تواضع حاله ماديا، كان يُكرمنا دائما، وكان يتدبر لنا أمر مأدبة العشاء التي كان الكسكس طبقها الرئيس، والوحيد أيضا.
لعبنا مرة مسرحية في الرباط، وكانت من التجارب التي لا تُنسى صراحة. فقد قضينا يومين هناك، وتزامنت فرصة أداء هذه المسرحية مع عطلة مدرسية. ولذلك وضع الوطنيون الرباطيون رهن إشارتنا مدرسة حرة، كنا ننام ونتدرب فيها على أداء المسرحية.
التحق بنا لمشاهدة المسرحية كل وطنيي الرباط ومقاوميها، أو بالأحرى الذين كانوا منهم في حالة سراح، فقد كان هناك عدد منهم في سجون فرنسا في ذلك الوقت.
وكان الفقيه، مدير مدارس محمد الخامس، وهو رجل وطني وعاش تجربة سجن مريرة أيام الحماية، وكان أخوه يرافقنا بين الفينة والأخرى في المسرحيات.
لقيت المسرحية تجاوبا كبيرا، خصوصا وأنها كانت حول سلوكيات المستعمر وسعيه إلى امتلاك الأراضي وإقامة المصانع.
وأذكر أننا عندما عُدنا إلى الدار البيضاء، جاء عندنا المحجوب بن الصديق، وسألنا عن الأجواء التي مرت فيها المسرحية، وأشار إلينا بأنه يعرف مقاوما ينحدر من منطقة ورززات، وحكى لنا كيف أن والده قُتل في أحداث عاشها «الكاريان» سنة 1947، عقب الزيارة التاريخية للسلطان محمد بن يوسف إلى طنجة. فقد مارست سلطات الحماية ضغطا كبيرا على سكان الكاريان، حسب ما حُكي لي بحكم أنني وقتها لم أكن قد انتقلتُ بعدُ إليه، واقترح علينا العمل على مسرحية تعالج هذا الموضوع. وفعلا حضّرنا مسرحية وثقت لهذه الجريمة المنسية، والتي راح ضحيتها شهداء كثر سقطوا بالرصاص.
بهذه الطريقة تقريبا اشتغلنا على جميع المسرحيات الأخرى..
مع اقتراب سنة 1953، كان «الكاريان» يغلي. التوعية بأهمية العمل النقابي وحقوق العُمال في المصانع تجري على قدم وساق في العروض المسرحية، بينما كانت الجلسات الخاصة والاجتماعات التنظيمية لأطر حزب الاستقلال وعمل اللجان، تعرف نقاشا حماسيا حول ضرورة مكافحة المستعمر والنداء بحياة السلطان سيدي محمد بن يوسف. وهكذا ازداد الاهتمام بالكاريان، حتى أن الصحافي أحمد زياد غطى بنفسه وقائع هذا الحي وظروف عيش سكانه.
حذفته الرقابة..
كُلفت في إحدى المناسبات، وأعتقد أنها كانت خلال بداية سنة 1953، باصطحاب الصحافي أحمد زياد في زيارة إلى الكاريان.
كان ينوي كتابة مقالات عن أجواء «الكاريان سنطرال» وظروف معيشة العمال والأسر التي نزحت إلى الدار البيضاء. ولم يكن الأمر يتعلق بزيارة واحدة وحسب، بل جاء في عدة زيارات متفرقة، طيلة مدة اشتغاله على موضوع سكان الكاريان ووضعهم الاجتماعي.
وتطوعتُ لكي أرافقه رحمه الله، وأكون دليله داخل «الكاريان»، طيلة مدة مُهمته الصحافية، بحكم أنني أسيّر الفرن، وبفضله ربطت علاقات وطيدة مع عدد من السكان، بينهم مقاومون.
كان أحمد زياد يتجول بين البراريك الصفيحية والأزقة الضيقة، ويعاين حالة بعض الأسر. وكان يمازحني بجُملة ترسخت في ذهني، خصوصا وأنه كان ينطقها بطريقة خاصة. وكان يقول لي، مشيرا إلى حالة من الحالات التي يعاينها داخل الكاريان: «إذا كتبتُ عن هذا الموضوع، سوف تحذفه الرقابة بدون شك». ومن كثرة ما كان يردد هذه الجملة، صار في كل مرة يرى واقعا مُحرجا، ينظر إليّ ويلوح بيده ممازحا: «حذفته الرقابة».. كانت تلك طريقته رحمه الله في السخرية من الواقع المرير الذي يحيط بنا.
كان يقصد بالرقابة، ذلك الحصار الذي تفرضه الإقامة العامة الفرنسية على الصحف المُعارضة لتوجه المقيم العام، الصادرة باللغة العربية، خصوصا صحيفة «العَلم».
عندما أردنا اغتيال الباشا الگلاوي
من جهة أخرى، كانت اللقاءات داخل دار المقاوم إبراهيم الروداني، تعرف هي الأخرى أجواء حماسية، أكثر من أي وقت مضى. وقد كان يولي عناية كبيرة بناس «الكاريان» وسكانه. ولولا اهتمامه هذا بالحي، لما كُتب لي أن ألتقيه. فكيف برجل من أثرياء المدينة وأكثر رجالها شعبية أن يلتقي بشاب يافع، ويفتح له باب منزله؟ فقد قيل لي في ما بعدُ، أن المقاوم إبراهيم الروداني كان يقول لعباس المساعدي الذي كان يشتغل عنده محاسبا، أن يأتيه بأحد من «الكاريان»، لكي يتعرف عليه.
كان رحمه الله، كما أسلفتُ، قد جنبنا ارتكاب كارثة غير محسوبة العواقب عندما عرضنا عليه مسألة تفجير محطة بنزين، وهناك أيضا محطات أخرى جنبنا فيها ارتكاب أفعال أخرى. واحدة منها تتعلق بالباشا التهامي الكلاوي.
في إحدى الجلسات في منزل المقاوم إبراهيم الروداني، جاء مجموعة من الإخوان، وكنتُ حاضرا معهم. كان الحديث عن المستجدات السياسية يطغى على الجلسة. ومن جملة ما تم تداوله، زيارة الباشا التهامي الكلاوي إلى فرنسا. فقد اهتمت بها الصحف، وحتى نشرات الأخبار في الراديو تحدثت عنها. واقترح الإخوان أن نقوم «بشيء ما»، عندما يعود الگلاوي إلى المغرب، خصوصا وأنه كان مقررا أن يعود، حسب المعلومات التي تداولها الإخوان، إلى ميناء الدار البيضاء.
إذ أن السفر بالطائرة لم يكن متاحا وقتها، وكانت أغلب الرحلات بين المغرب وفرنسا، تتم من ميناء الدار البيضاء بحرا. لذلك قرر الإخوان أن يتربصوا بالگلاوي عند عودته واغتياله. وكان هناك خلاف بين الإخوان حول الطريقة التي يجب أن يُغتال بها الباشا. هل سيُغتال بالرصاص أم بقنبلة يتم تفجيرها عند وصوله؟
وكان السياق الذي ذُكرت فيه هذه الواقعة، يتمثل في غليان الساحة السياسية، قبيل صدور قرار نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف. فقد كان المقاومون يكنون عداء كبيرا للباشا، بسبب لائحة توقيعات القياد والأعيان التي طالبوا فيها بنفي السلطان سيدي محمد بن يوسف، وكان معروفا أن الباشا كان مسؤولا عن اللائحة، ويربط الاتصالات بالقياد لكي يوقعوا عليها، لكي يرفعها إلى المقيم العام.
إلا أن إبراهيم الروداني، الذي كان يسمع ما يقال، تدخل وقال إنه لا يجب نهائيا الاستمرار في هذه الفكرة أو تنفيذها. ونصح الجميع بالعدول عنها نهائيا، لأنها غير مناسبة.
العام الأسود
سنة 1953 تستحق فعلا لقب «العام الأسود» في ذاكرة المغاربة. فقد ارتبطت بنفي السلطان سيدي محمد بن يوسف. ومع اقتراب هذا التاريخ، كان «الكاريان» شديد الغليان.
وكثيرة هي المظاهرات التي انطلقت من الكاريان، وقُمعت، ولم تُسجل أسماء ضحاياها. رغم أن المحجوب بن الصديق، والطيب بوعزة، وهو مسؤول نقابي سبق بن الصديق في فترة من الفترات إلى تسيير عمال الكاريان في المصانع.
لكن الأمر الذي جعلني أقرر أن تأخذ حياتي منعطفا آخر، كان هو حدث نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف. وقد عشتُ تلك اللحظات، رفقة سكان الكاريان جميعا، وكان حزن غير عادي قد خيم على كل ركن من أركانه.
أذكر أننا كنا مجتمعين كعادتنا، ولم نكن نعلم أي شيء وقتها عن نفي السلطان وأسرته. إلى أن جاءنا مقاوم لديه شعبية كبيرة في «الكاريان»، واشتهر بركوب دراجة هوائية، يمر بها مسرعا إلى مشاويره. وكان اسمه «بوتران». توقف عندنا ونحن مجتمعون، وألقى علينا الخبر كالقنبلة. وقال لنا إن السلطان نفي هذا اليوم هو وولي العهد الأمير مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله والأميرات.
لا يمكن وصف الجو الجنائزي الذي خيم على الجميع، وتحول الحماس والنقاش المتقد الذي كان ساريا بين الحاضرين للاجتماع، إلى صمت مطبق كأنه صمت القبور. أما أزقة الكاريان ودوره الصفيحية، فقد اختلط فيها النحيب بأصوات الاستنكار.
أمام هذا الوضع المُحتقن، فكرتُ مرة في خطة للحصول على المال لشراء السلاح. بدأت أقتنع أنه من الضروري لي أن أتوفر على مسدس.
لذلك توجهتُ رأسا إلى منزل المقاوم إبراهيم الروداني. وكعادته كان خبيرا في التعامل مع اندفاع الشباب.
قُلت له في البداية إن لدي فكرة مشروع وخطة «جهنمية وسوف تُعجبك كثيرا». وطلب مني أن أعرضها عليه.
قلتُ له أولا إنني قررتُ أن أبيع نصيبي من إرث والدي رحمه الله في مدينة الجديدة. فكان رده كالآتي:
-«واش عمرك شفتي شي دكالي كيبيع البلاد؟».
ونصحني بالتريث.
إلا أنني لم أكن أطيق صبرا. واتجهتُ إلى الجديدة وطلبتُ من أخي الأكبر أن يعطيني نصيبي من الأرض. وفعلا حاول أخي مجاراتي، ولا أدري كيف تدبر الأمر، لكنه طلب مني أن أعود إليه بعد أسبوع، خصوصا وأنني زُرته يوم الأحد الذي كان يعقد فيه السوق. وفي الأسبوع المقبل جئته كما طلب مني تماما، ومنحني مبلغ 600 درهم، وقال لي أن أعود لاحقا لأخذ ستمئة درهم أخرى.. ولا أذكر كيف انتهى الأمر تحديدا.
المهم أنني أخذتُ المبلغ، واشتريت أول مسدس لي في حياتي. وبحكم حداثة سني، وعدم خبرتي نهائيا في مجال الأسلحة، أعطاني الرجل، الذي باعني المسدس، رصاصات فارغة لا تصلح للاستعمال.
كان بيننا، نحن مجموعة من الشباب، ومنهم عبد الله السرغيني، اتفاق. قررنا أن ننقسم إلى مجموعات، وأن يتكلف كل واحد منا بمنطقة لكي نبدأ أعمالنا الفدائية التي نستهدف فيها المُعمرين، وأذناب الاستعمار. كان محور عملياتنا، كما اتفقنا، هو الكاريان سنطرال، مدينة الجديدة، ثم فضالة.