عبد الإله بلقزيز
حين يستعيد المرء ما حصل لأوروبا من نكبات، منذ ثلاثينيات القرن العشرين؛ بصعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا وإسبانيا، واندلاع الحرب العالمية الثانية في امتداد الاجتياح الألماني للقارة، ناهيك بعشرات ملايين القتلى والجرحى وبالخراب العظيم للاقتصاد والمقدرات والمدن والبنى التحتية، وصولا إلى انقسام أوروبا إلى معسكرين واقتسام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي النفوذ فيها…إلخ، ويقارن هذه النتائج الكارثية مع ما صارت إليه الأوضاع في أوروبا، سوف لن يجد من دليل على تعافي أحوالها من سنوات الحرب الثلاثين الممتدة من العام 1914 إلى العام 1945، وسيتبين أن كفة مكتسباتها (دحر النازية، إعادة البناء) دون كفة خسائرها ثِقْلاً في الميزان؛ ففي الثلاثين عاما تلك دمرت أوروبا ما بنته خلال مئات السنين من تاريخها الحديث!
مع ذلك، لم تَأْلُ دول أوروبا جهدا في استيعاب القدر الكبير من خسائرها وتدارك ما فاتها، منذ انخرطت في جنونها الجماعي. ولعلها تكون – أثناء انطلاقة «مشروع مارشال» لإعادة بنائها – قد أنضجت فكرة عليا عما سيكون عليها أن تفعله في المستقبل القريب، لئلا تتكرر المآسي التي وقعت فيها. لم يكن في وسعها أن تتأكد، تماما، من أن ما حدث لن يتكرر؛ فالأجواء – حينها – ملبدة بنذر حرب باردة لن يضمن أحد أن تظل باردة إلى ما شاء الله، ولكن كان يَسَعُها، في الحد الأدنى، أن تؤسس لنظام جديد من العلاقات يكون صمام أمان في وجه صدام بيني نظير ذلك الذي دمرها وأودى بمكانتها. وهكذا كانت بوادر عقيدة سياسية جديدة قد بدأت تتبين في الأفق؛ إنها فكرة التعاون، على الأقل بما هو علاقة بين دول أوروبا الغربية.
ومثل أي مشروع للتعاون كبير يريد نفسَه نواة لاتحاد إقليمي، كان على التعاون الأوروبي أن ينطلق بين الدولتين الكبريين في المنظومة الأوروبية الغربية (ألمانيا، فرنسا). ولقد نجحت الدولتان معا في أن تطويا صفحة تاريخ من الحروب بينهما امتد لأزيد من قرن ونصف (منذ نابليون حتى الحرب العالمية الثانية)، وفي أن تتوافقا على تعاون مفتوح يُخْمِد أسباب تلك الحروب، ويُنمي معدلات الثقة المتبادلة، ويفتح بابا نحو مستقبل أفضل للبلدين وللقارة برمتها. ولو لم يقع التوافق بين الدولتين على شراكة تتجاوز نطاق علاقتهما الثنائية لتشمل دولا أخرى من غرب أوروبا، لما أمكن لست من دول أوروبا الغربية أن تتداعى إلى اجتماع تمهيدي – لوزراء خارجيتها – في إيطاليا للبحث في مشروع للتعاون الاقتصادي في بداية صيف 1951، أي بعد أعوام قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد سنوات ثلاث، فقط، من إنشاء «المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي» في 1948، أي في العام عينه (1951) الذي جرى التوقيع فيه على اتفاقية الحديد والصلب للمنظمة عينها.
وما لبثت الدول الست تلك (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ) أن وقعت، رسميا، على معاهدة روما (1957) التي أنشأت «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» (التي عُرِفت باسم السوق الأوروبية المشتركة)، قبل أن يقع توسيعها التدريجي بانضمام المملكة المتحدة، والدانمارك، وإيرلندا، ثم اليونان وإسبانيا والبرتغال، في الثمانينيات، بعد زوال حكم الأنظمة العسكرية عنها. وما من شك في أن هذا التجمع الاقتصادي الكبير الذي بنته أوروبا الغربية عاد عليها – مجتمعاتٍ واقتصادات – بأجزل الفوائد، وحسّن موقعها في النظام الاقتصادي العالمي، ولكن في الوقت عينه راكم خبرة لديها كبيرة في التعاون والشراكة والاعتماد المتبادل، وهيأها لمراحل من الاندماج والاتحاد أعلى (= الاتحاد الأوروبي مثالا). وهذا ليس تفصيلا في حياة مجتمعات أوروبية، ظلت متمسكة بهوياتها القومية وحدودها القومية في وجه كل مشروع للتذويب.
وما أن ولج العالم طور العولمة، حتى اهتزت التوازنات الاقتصادية والاستراتيجية كونيا، وباتت الحاجة ماسة إلى تنمية القدرة على المنافسة في عالم لم تعد فيه هذه متكافئة. ولقد كان على أوروبا، بالذات، أن تهيئ نفسها للانتقال نحو بناء قطب اقتصادي جديد، كي تقوى على المنافسة تلك وتتحول إلى شريك فعلي في عولمة اقتصادية وتقانية تجري صناعتها – حينها – في الولايات المتحدة و، نسبيا، في اليابان. واستثمرت، في سبيل هذه الغاية، نتائج تجربتها التعاونية في إطار «الجماعة الاقتصادية الأوروبية»، كي تدشن مشروعا للاندماج أعلى في إطار «الاتحاد الأوروبي». ولكنها استثمرت، أيضا، انفراط «المعسكر الاشتراكي» كي تستدخل بلدان شرق أوروبا ضمن منطقة نفوذها الاقتصادي، فتهيئها – بالتدريج – للالتحاق بـ«الاتحاد»؛ وهو عين ما سيحصل على امتداد الفترة الفاصلة بين بدء تطبيق «معاهدة ماستريخت» – المنشئة لـ«الاتحاد» (1993) – وانضمام آخر عضو إليه (كرواتيا) في العام 2013. ولعل انعطافة ذلك التعاون كانت مع بدء تنفيذ العمل بقرار الوحدة النقدية الأوروبية (اليورو)، في مطلع العام 2002.
يطلعنا هذا المسار التعاوني الناجح على حقيقتين متلازمتين: إن التعاون والشراكة والاندماج هي المفردات السياسية المناسبة لطي صفحات الحروب والنزاعات؛ وهي – في الوقت عينه – المفردات الاقتصادية المناسبة لمواجهة تحدي البقاء في عالم جديد تعسرت فيه ظروف المنافسة.
نافذة:
التعاون والشراكة والاندماج هي المفردات السياسية المناسبة لطي صفحات الحروب والنزاعات وهي في الوقت عينه المفردات الاقتصادية المناسبة لمواجهة تحدي البقاء في عالم جديد