أوراق ساخنة من حياة محمد بن ددوش
رحيل أقدم مُذيع عاش أحداث القرن الماضي بالأبيض والأسود
![](https://www.alakhbar.press.ma/wp-content/uploads/2023/11/محمد-بن-ددوش-يطالع-مذكراته-التي-أرخ-فيها-لمسار-حياته-مع-الأثير--750x470.jpeg)
لم يتوقف بث الراديو في المغرب عند وفاة محمد بن ددوش، لكن بالمقابل، خيم الحزن على أصوات أغلب مذيعي الإذاعة، يوم الاثنين الماضي، وهم يتلون خبر وفاة قيدوم الإذاعيين والصحفيين المغاربة، وأحد مؤسسي وأعلام الإذاعة المغربية.
صوت محمد بن ددوش ارتبط لدى الجيل الذي عايش انطلاق الإذاعة والتلفزة المغربية، قبل أزيد من نصف قرن، بمحطات تاريخية شكلت ملامح القرن الماضي. من محادثات إكس ليبان إلى استقلال المغرب، وصولا إلى أبرز محطات مرحلة حكم الملك الراحل محمد الخامس، ووفاته وبداية مرحلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، كما أن بن ددوش كان أول من أعطى خبر انطلاق المسيرة الخضراء رسميا في السادس من نونبر 1975.
تقاعد بن ددوش بعد مسار حافل في الإعلام الوطني، وفي قلبه غصة، والسبب أنه تأثر بالمد والجزر الذي عرفه الإعلام الرسمي، خلال مرحلة تحكم إدريس البصري في المشهد الإعلامي.
رحل إذن بن ددوش، الرجل الذي لم يُفارق الميكروفون إلا ليكتب سيرته.
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++++++++
نهاية رحلة فاقت نصف قرن من الصحافة
بوفاة محمد بن ددوش، الإعلامي الذي اشتغل في الصحافة الإذاعية قبل الاستقلال وبعده، يفقد المغرب أحد النادرين القلائل الذين أسسوا للعمل الصحافي الإذاعي في المغرب، وأحد الشهود الذين عاشوا أقوى وأحلك الأحداث التي عرفها مغرب القرن الماضي.
عندما بدأ محمد بن ددوش العمل الصحافي، كان يشتغل في حقل يسيطر عليه الفرنسيون، فيما لا يحظى فيه المغاربة إلا بمكان للفرجة، وحيز من البث باللغة العربية لمخاطبة المغاربة.
وقع الاختيار على محمد بن ددوش لكي يمارس دور «الإخبار» ويخاطب المغاربة على أمواج الراديو، في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، وفي غشت سنة 1955 سوف يأخذ على عاتقه مهمة ثقيلة، تتمثل في تغطية رحلة الوفد المغربي المكون من الحكوميين والأعيان وأعضاء الحركة الوطنية، إلى «إكس ليبان»، المنتجع السياحي الذي كان يقضي فيه وزير الخارجية الفرنسي عطلته السنوية. جرت محادثات إكس ليبان في إيقاع سريع من الاجتماعات، وكان محمد بن ددوش يمارس عمله الصحافي، ويبث للمغاربة مضامين تلك الاجتماعات أولا بأول.
وبعد ثلاثة أشهر، عاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، ومن جديد كان محمد بن ددوش في الموعد، حتى أنه كان على رأس الشبان الإعلاميين الذين استقبلهم الملك الراحل فور عودته.
في مارس 1956، أعلن رسميا عن استقلال المملكة المغربية عن فرنسا، وغطى بن ددوش تلك الاحتفالات التي عمت أرجاء المغرب كاملة، ومن هناك انطلقت رحلته على أثير الراديو، خصوصا وأنه اضطلع بمهمة تقديم الأخبار، إلى جانب فريق من رواد الراديو المغاربة.
ما ميز مسار بن ددوش أنه كان في قلب الأحداث الساخنة التي عرفها المغرب، سيما واقعة زلزال أكادير، أعنف حدث اجتماعي في مملكة محمد الخامس. وبعد جلوس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش، كان بن ددوش قد ترقى في السلم الإداري، وأصبح مسؤولا عن قسم الأخبار العربية، وساهم إلى جانب تقنيين مغاربة آخرين في تأسيس أول شبكة برامجية في الراديو المغربي، مع منتصف الستينيات.
تزامن هذا الأمر مع ميلاد التلفزيون، وكان بن ددوش من جديد في الموعد، وكان أحد المهندسين الأوائل لطريقة إخراج تغطية الأنشطة الملكية في الإذاعة والتلفزة المغربية. ثم بعد ذلك انتقل إلى الإشراف على الإذاعة مع بداية السبعينيات، وقاده حظه لكي يكون في قلب معمعة انقلاب الصخيرات في العاشر من يوليوز 1971، ليس من داخل القصر الملكي وإنما من قلب مبنى الإذاعة، حيث تُلي بلاغ الانقلاب. وبعد ذلك تكلف بتغطية تنفيذ عملية إعدام العسكريين المُتهمين بتدبير الانقلاب.
تحدث بن ددوش عن هذه المحطة في مذكراته، التي اختار لها عنوانا بليغا جمع بين قصة حياته ورحلته مع الميكروفون، وبدا كمن يمشي على الألغام وهو يستحضر تلك اللحظات.
حكايات من زمن «الراديو»..
المميز في مسار محمد بن ددوش، أنه واحد من الصحفيين المغاربة القلائل الذين اشتغلوا مع الأطر الفرنسية التي كانت وراء إطلاق العمل الصحافي في المغرب، خصوصا على أمواج الراديو.
يتعلق الأمر بتجربة «تيلما» التي أُقبرت ونُسيت تماما. وهي تجربة إعلامية أطلقها الفرنسيون في المغرب، وترمي إلى إحداث تلفزة مغربية في فبراير سنة 1954، وهو وقت مبكر جدا للحديث عن تجربة تلفزية في المغرب. استمرت التجربة لخمسة عشر شهرا فقط، وأشرفت عليها أطر فرنسية، ولم تكن هناك إشارة نهائيا إلى وجود أطر مغربية فيها.
لكن كُتب لمحمد بن ددوش أن يتعامل مهنيا، وعن قرب، مع الصحفيين الفرنسيين الذين عاشوا هذه التجربة الإعلامية النادرة.
انتهت هذه التجربة في ماي 1955، وكان وقتها محمد بن ددوش قد بدأ فعلا مساره الصحافي في الراديو. ونُقل بعض الفرنسيين الذين اشتغلوا على مشروع التلفزيون الذي فشل فشلا ذريعا وقتها، بالنظر إلى المشاكل التقنية التي واجهته، وأيضا بسبب عدم انتشار أجهزة التلفزيون في المغرب، حتى في صفوف الفرنسيين، فما بالك بالمغاربة.
الراديو كان الأكثر شعبية، بل كان مكتسحا المغرب بلا منازع، وهو ما كان يعني أن بن ددوش بمجرد ما أن بدأ يقرأ أولى التقارير ونشرات الأخبار باللغة العربية، حتى تحول إلى نجم حقيقي بين المغاربة.
من بين الأنشطة التي وثق لها بن ددوش، خطابات الملك الراحل محمد الخامس أيام الحماية، والتي كانت مضامينها تُنقل على أمواج الإذاعة، وكان الفرنسيون الذين يديرون هذا الجهاز يحتاجون إلى من يفهم اللغة العربية، لإنجاز مهمة تقطيع الخطاب وإعداده للبث.
هذه التجربة صنعت من بن ددوش خبيرا في السير على «الألغام» مبكرا. حتى أنه بعد استقلال المغرب سنة 1956، كان الأكثر خبرة من بين زملائه الصحفيين، في نقل الأنشطة الملكية والتعليق عليها في أمواج الإذاعة، وهو ما جعله يصبح قريبا جدا من الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن، ورافقهما في أكثر من رحلة ملكية، خصوصا أثناء إشراف الملك الراحل بنفسه على عملية إدماج جيش التحرير المغربي في صفوف الجيش الملكي. حيث كان بن ددوش في الصف الأول لمرافقي الملك الراحل محمد الخامس، سيما في زيارة الناظور التاريخية، التي أعلن فيها عن إدماج جيش التحرير في الشمال. إذ تكلف بن ددوش بتسجيل الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل أمام مئات أعضاء جيش التحرير عند إدماج بعضهم في الجيش الملكي، ونقل مضامينه على أمواج الإذاعة الوطنية.
من العمل مع الفرنسيين إلى تغطية محادثات إكس ليبان
بالنسبة إلى الذين لم يقرؤوا مذكرات الصحافي محمد بن ددوش، فسوف يفاجئهم أن هذا الأخير كان مكلفا بتغطية محادثات الوفد المغربي في إكس ليبان، غشت 1955.
المغاربة الذين عاشوا تلك الأحداث، كانوا قد خلقوا ألفة وثيقة مع صوت الراحل بن ددوش، وهو يستهل مراسلته كالآتي: «هنا إكس ليبان ومنها أحدثكم أنا محمد بن ددوش».
ورغم أن الراديو الذي كان ينقل تلك المراسلات، تابع للإدارة الفرنسية، إلا أن صوت بن ددوش كان مدعاة للفخر بالنسبة إلى المغاربة، خصوصا وأن جل برامج الراديو المغربي وقتها، «راديو ماروك»، كانت باللغة الفرنسية. وظهور صوت مغربي وسط كل تلك الأصوات الفرنسية، كان فعلا مدعاة للفخر.
حكى بن ددوش في مذكراته، «حياتي وراء الميكروفون»، كيف أن الفرنسيين الذين كانوا يُسيطرون على الإذاعة، لم يكونوا ليتقبلوا ظهور نزعة وطنية مغربية على أمواج الراديو. وربما لولا اضطرار الإدارة إلى برمجة ساعات بث باللغة العربية، لما وجد بن ددوش مكانا له بين الصحفيين الكبار الذين مثلوا هوية «راديو ماروك» الصوتية.
إلا أن نجم بن ددوش لم يسطع إلا في سنة 1955، عندما غطى محادثات إكس ليبان وتعرف عليه الملك الراحل محمد الخامس، ليجد نفسه في طليعة الصحفيين المغاربة الذين سُمح لهم بولوج القصر الملكي، مباشرة بعد عودة الملك الراحل وأسرته إلى المغرب في 18 نونبر من السنة نفسها. وبعد ذلك توالت اللقاءات الرسمية التي حضرها بن ددوش، في قلب القصر الملكي، أو مرافقا للملك الراحل في سفرياته، سيما في احتفالات تأسيس فروع جيش التحرير المغربي. حيث كان بن ددوش يحمل معه عُدَّةَ البث في حقيبة خاصة، ويتولى نقل الخطاب الملكي في تلك المناسبات، لكي يُسمع على أمواج الراديو.
قُرب بن ددوش من الأحداث، جعله يصبح ركيزة مهمة في تجربة الإذاعة المغربية بعد الاستقلال.
منذ سنة 1956، كان بن ددوش قد دخل فعلا إلى كل البيوت المغربية، من خلال تقديمه لنشرات الأخبار، كما أن حضوره في الأنشطة الملكية الرسمية للملك الراحل محمد الخامس، جعله يصبح وجها، وصوتا، معروفا لدى المغاربة.
وإلى حدود سنة 1961، تاريخ وفاة الملك الراحل محمد الخامس، كان بن ددوش قد غطى معظم لقاءات الملك الراحل وأنشطته وزياراته داخل المغرب وخارجه أيضا.
لكن أكثر ما يعتز به بن ددوش، زيارات الملك الراحل محمد الخامس إلى مقر الإذاعة المغربية. وقد حكى في مذكراته، واصفا بعض تلك اللحظات التي اعتز بها العاملون في الإذاعة، وقال إنه غير ما مرة، فوجئ وهو يهم بالدخول إلى الحجرة والجلوس أمام الميكروفون، بدخول الملك الراحل محمد الخامس، وبرفقته ابنته الصغرى لالة أمينة. يقول بن ددوش إن الملك الراحل لم يكن يرغب في تغيير أنشطة الراديو ولا تقييد حركة العاملين. وكان يجلس وحيدا في الزاوية رفقة ابنته، ويراقب عملية قراءة بن ددوش، أو أي مذيع آخر، لنشرة الأخبار، ويغادر الإذاعة مع نهاية النشرة، بعد أن يُسلم عليه العاملون في الإذاعة.
تكررت تلك الزيارات إلى أن أصبحت مألوفة لدى العاملين في الإذاعة المغربية، أيام الملك الراحل محمد الخامس. وبعد سنة 1962، دخل بن ددوش مع الملك الراحل الحسن الثاني مرحلة إعلامية أخرى، ميزها التلفزيون، والمحطات السياسية الكبرى التي بصمت ملامح القرن الماضي.
ذكريات من زمن «برنامج زلزال أكادير»
من بين المحطات التي رافق فيها محمد بن ددوش الملك الراحل محمد الخامس، كانت تلك التي تتعلق بيوميات زلزال أكادير المدمر الذي ضرب المدينة في فبراير 1960.
رافق بن ددوش الملك الراحل محمد الخامس، ومعه ولي العهد الأمير مولاي الحسن، على متن الطائرة التي أقلتهما لتفقد المدينة خلال الساعات الأولى التي ضرب فيها الزلزال.
وهناك، تقرر أن ينجز بن ددوش برنامجا يوميا لتناول أحداث الزلزال وتطوراته، وإعلان أخبار العثور على الناجين وتلاوة أسمائهم لمساعدة العائلات على العثور على المفقودين.
استمر البرنامج لأكثر من شهر، عاش خلاله محمد بن ددوش تجربة إنسانية لا تُنسى، وقد أسرّ إليه بعض من يثق فيهم أن الملك الراحل محمد الخامس كان يتابع بنفسه شخصيا برنامج بن ددوش، ويثق في الأخبار الواردة فيه أكثر مما يثق في التقارير التي كان يرفعها إليه الإداريون.
كان بن ددوش، سواء من استوديو الرباط، أو من خيام الناجين من الزلزال، ينقل إلى المغاربة أهم المعلومات المتعلقة بإيواء الناجين وعلاج المصابين، وعودة الحياة إلى المدينة بعد الزلزال.
هذه الحظوة التي نالها بن ددوش، من خلال تغطيته لأخبار الزلزال، رفقة صحفيين مغاربة آخرين، أهلته لكي يصبح على رأس الإذاعة المغربية. فحتى في الوقت الذي كان منصب رئيس الإذاعة يعود إلى أسماء أخرى، فقد كان محمد بن ددوش رئيسا فعليا للإذاعة المغربية.
تحكي بعض المصادر لـ«الأخبار» أن الملك الراحل محمد الخامس كان يستدعي محمد بن ددوش في كثير من المناسبات، لكي يسأله عن أمور تتعلق بالإذاعة وبرامجها، دون أن يسأل مدير الإذاعة المغربية الذي عينه الملك الراحل محمد الخامس بنفسه. وقد كانت هذه «الحظوة» تُزعج بعض المسؤولين، لكن لم يكن أمامهم سوى التآلف معها، خصوصا وأن مهنية بن ددوش والأحداث التي غطاها للإذاعة، كانت وراء المكانة التي منحها له الملك الراحل.
وقد استمر الأمر مع الملك الراحل الحسن الثاني، إذ كان بن ددوش مقربا من الملك، ورغم وفاة الملك الراحل محمد الخامس، إلا أن مكانة بن ددوش لم تتغير.
تغطية بن ددوش لزلزال أكادير، جعلته يكون قريبا من الملك الراحل الحسن الثاني، وهو لا يزال وقتها وليا للعهد، بحكم أن الأمير كان مشرفا على العمل الميداني، ويمثل والده في المدينة، بينما كان بن ددوش يمارس عمله الصحفي ويشرف على المراسلات التي تتعلق بأخبار الزلزال، حتى عندما انتهت مهمته في أكادير وعاد إلى الرباط.
الحزن الذي تركته تغطية زلزال أكادير في نفس بن ددوش، لم يفقه إلا حزنه على وفاة الملك الراحل محمد الخامس، سنة بعد الزلزال. وكان صوت بن ددوش مرة أخرى حاضرا في كل البيوت المغربية أثناء بث خبر وفاة الملك الراحل محمد الخامس، ونقل تفاصيل مرور موكب الجنازة ليشيع الملك الراحل محمد الخامس إلى مثواه الأخير.
في عهد الملك الراحل الحسن الثاني بدأ بن ددوش تجربة أخرى، في الراديو والتلفزيون، وغطى أحداث جمعت بين الملاحم التاريخية والأحداث السياسية الساخنة.
أول برنامج حواري سياسي في التلفزة المغربية بعيني بن ددوش
«لقد وقع الاختبار عليّ لتسيير هذه الندوة التي كان محورها القضايا الاقتصادية والاجتماعية في ضوء المسؤولية التي تحملها الوزيران، وهكذا عكفت على إعداد ملف كامل مع التساؤلات التي يمكن أن أطرحها خلال المناقشة. وجاء يوم الندوة في أحد أيام مارس 1963.
وجاء الوزيران، طبعا كل واحد بمفرده، حيث استقبلهما مدير الإذاعة والتلفزة بكل ما يليق بهما .
وكما جرت به العادة في جميع محطات التلفزيون، وقبل بدء البرنامج ، خضع الوزيران لعملية (الماكياج) ولم يكن هذا العمل قد تطور كثيرا في التلفزة المغربية الوليدة، بل يمكن القول إنه كان غير خاضع للمواصفات المطلوبة، لقلة الخبرة والإمكانيات، وهذا ما سيحول وجهي الوزيرين خلال المناقشة، وتحت تأثير الأضواء القوية، إلى وضعية تثير الشفقة.
وانطلقت الندوة ، وماهي إلا دقائق معدودة حتى بدأ (الصراع) وتطايرت «الشظايا» من فمي الرجلين، لقد تحولت المناقشة عن مسارها لتدخل مسار المهاترات والتهم المتبادلة والتهجم الشخصي بشأن التسيير، وكانت بعض التهم من الوزن الثقيل بشأن الفساد المالي وعدم الكفاءة.
لقد وجدت نفسي فجأة في وضع لا أحسد عليه، فقد أصابتني الدهشة لهذا النوع من الحوار الذي أواجهه للمرة الأولى في حياتي المهنية، والبرنامج يذاع مباشرة، ومع ذلك حاولت إثبات وجودي، فحاولت بين الحين والآخر تهدئة الوضع والرجوع بالرجلين إلى صلب الموضوع المطروح للمناقشة. ولكنها كانت محاولات فاشلة، وما زلت أذكر أن السيد امحمد الدويري كان كثيرا ما يشتكي من احتكار السيد إدريس السلاوي للميكروفون، ويتهمه بعدم تمكينه من الكلام، وفي الوقت ذاته يُشْهِدُنِي على هذه التصرفات. وعلى حين غفلة – والنقاش على أشده – تقدم نحونا عبد الله غرنيط، مدير الإذاعة والتلفزة، واقترب حتى دخل مجال الكاميرا يراه المشاهدون (مع أنه لم يكن جزءا من المشهد الأساسي)، وانبرى باللائمة على الرجلين لهذا المشهد المزري وعلى هذه الصورة السيئة التي يقدمانها للمشاهدين، ودعاهما – وهو في حالة نفسية متوترة – إلى متابعة الحوار بهدوء. كل هذا الكلام وكل هذا اللوم وهذا التوبيخ الموجه إلى وزير في الحكومة ووزير سابق كان منقولا بالصوت والصورة على الهواء إلى المشاهدين، لأن التلفزة لم توقف البث، بل استمرت في النقل المباشر لكل أطواره إلى نهاية «المعركة»، ولم أعرف إلى اليوم لماذا لم تقرر التلفزة إيقاف البث بعد أن وصلت الأمور إلى ذلك الحد. وعلى كل حال كانت لها الشجاعة على الاستمرار في البث، وربما كان ذلك لحاجة في نفس يعقوب)، وطبقا لخطة مبيتة بعيدا عن المؤسسة الإعلامية.
انسحب مدير الإذاعة خارج مجال الكاميرا، وتابعنا الندوة، ولكن الدقائق الأولى بينت أن ملاحظات السيد عبد الله غرنيط لم يكن لها أي تأثير، وأن «اللسان بدون عظم» كما يقول المثل المغربي. فقد أخرج كل واحد من «المتصارعين» ذخيرته الثقيلة لحسم المعركة لصالحه، وما هي إلا لحظات وإذا بالسيد امحمد الدويري يقوم من مقعده ويأخذ الميكروفون الوحيد المنصوب فوق الطاولة بيده، ويبتعد به عن طاولة المناقشة، مما أصبح متعذرا معه متابعة الحوار، أو بالأحرى (الصراع) بدون ميكروفون وبدون وجود أحد الطرفين».
يقول بن ددوش إنه لاحظ صمتا رهيبا في منصة توضيب الحوار والتحكم في الكاميرات، قبل أن يكتشف أن سبب الصمت الرهيب للتقنيين، هو وجود الوزير القوي أحمد رضا اكديرة فوق رؤوسهم. فقد جاء إلى مقر التلفزيون لمؤازرة صديقه الوزير إدريس السلاوي.
المثير أن الدويري أخرج في وسط الحوار، كما يحكي بن ددوش دائما، ورقة تتضمن أرقاما رسمية تؤكد، حسب ما قاله، أن الوزارة تعيش تراجعا كبيرا في ظل وجود الوزير إدريس السلاوي وقارنها بأرقام تعود إلى فترة وجوده، أي الدويري، على رأس الوزارة سابقا، وهو ما احتج عليه إدريس السلاوي وبدأ يصيح في وجه الدويري أنه ليس من حقه نهائيا استعمال وثائق وأرقام رسمية للوزارة في البرنامج.
انتهى البرنامج كما يقول بن ددوش، لكن المفاجأة كانت أن جحافل من الناس، بينهم مسؤولون كبار في الدولة، غادروا منازلهم واتجهوا صوب مسرح محمد الخامس رغبة منهم في متابعة الحوار، لكنهم فوجئوا برجال الأمن يمنعونهم من الدخول إلى حيث الاستوديو.
كيف عاش بن ددوش مأساة الصخيرات.. من الانقلاب إلى بث النشيد الوطني
محمد بن ددوش، كان أحد الصحفيين القلائل الذين عاشوا مأساة مجزرة الصخيرات، خلال المحاولة الانقلابية التي استهدفت الملك الراحل الحسن الثاني في صيف 1971، من قلب مقر الإذاعة المغربية. كان بن ددوش موجودا في الإذاعة في اللحظة التي طوقها الجيش بقيادة الانقلابي اعبابو، العقل المدبر، وعاش بن ددوش اللحظات المرعبة لمحاولة بث البلاغ الذي يُعلن للمغاربة على أمواج الراديو أن السلطة أصبحت في يد الجيش. وبعد أن تطورت الأمور خارج الإذاعة وحدثت مواجهات بين أفراد الجيش الذين سعوا إلى ضبط الأمن واعتقال الانقلابيين، كتب بن ددوش في مذكراته، مُستعيدا هذه اللحظات العصيبة: «كان بودنا أن نستأنف الإرسال من الاستوديو 4، لكن تعذر بسبب التلف الذي لحق الواجهة الزجاجية العريضة التي تفصل غرفة المذيع عن غرفة التقني، ولذلك انتقلنا إلى استوديو 3، حيث انطلق الإرسال من جديد بالنشيد الوطني في جو يسوده الحماس، وكانت لحظة النشيد الوطني وهو يخترق الأثير تتردد أنغامه في كل أرجاء الوطن، لحظة مؤثرة استمعنا إليه بكل جوارحنا وكأننا نسمعه لأول مرة.
استأنفت الإذاعة الوطنية برامجها العادية في الساعة الحادية عشرة ليلا، وواصلت طوال الليلة الماضية بث برامجها دون انقطاع، وكانت تذيع بين فترة وأخرى الكلمة التي ألقاها الملك، ليلة أمس، من مقر إقامته الخاصة بالسويسي «الحقيقة من قصر الصخيرات»، تلك الكلمة التي أذيعت بالدارجة وباللهجة الأمازيغية وباللغتين الفرنسية والإسبانية، هكذا تحدثت صحيفة «العلم»، في عدد 12 يوليوز عن استئناف برامج الإذاعة.
لقد كانت المهمة هي الإشراف على هذا الفريق الإذاعي الذي تركزت مهمته في إعادة الثقة إلى النفوس، والتذكير بأمجاد الوطن، والوفاء للعرش، مع إبراز الفشل الذي آلت إليه المحاولة الانقلابية. كانت الشعارات التي تُكتب تحمل هذه المعاني ويتكفل المذيعون والمذيعات الحاضرون بإذاعتها بأصواتهم الحماسية، تتخللها فواصل موسيقية وأغاني وطنية، وكانت هذه الشعارات تذاع في الوقت ذاته باللهجات الأمازيغية وبالفرنسية والإسبانية، بعد أن تعزز الفريق الإذاعي ببعض العاملين في مختلف الأقسام، كانت ظروف العمل المادية متعبة بالنظر إلى عدم وجود مقاعد كافية ولا مكاتب، حيث كان الجميع يعملون وهم قعود على الأرض، لقد تحول الأستوديو إلى خلية نحل، هذا يكتب وذلك يترجم والآخر يذيع دون أن يلحقهم ملل، ولا تعب ولا جوع طيلة الليل واليوم الموالي، الذي هو الأحد 11 يوليوز. ولم يفكر أي واحد من الطاقم العامل في مغادرة الإذاعة والالتحاق بعائلاتهم، التي انقطعت عنها أخبارهم منذ أن وقعوا رهائن لدى العسكريين المتمردين. وفي خضم هذا العمل توصل الصحفيون، بعد منتصف الليل بقليل، بأول تسجيل لخطاب الملك الحسن الثاني الموجه إلى الشعب المغربي كما سبق ذلك ذكره، وقد تم استيحاء عدة شعارات من الخطاب الملكي الذي كان يذاع بين الحين والآخر، وقد استهل الملك خطابه بجملة ثقيلة الوزن، عميقة الدلالة، لخصت ما جرى في بعض الكلمات: «كادت بلادنا في الساعات الأخيرة أن تمر بنكبة من أعمق وأخطر النكبات في حياتها».