أفكار لأزمنة الموت
بقلم: خالص جلبي
في ظروف الحرب العالمية الثانية تم تسجيل مراسلات بهذا العنوان (أفكار لأزمنة الموت)، بين (آينشتاين) و(فرويد)، الأول عالم رياضيات والثاني باحث في علم النفس التحليلي. كانت الأفكار تدور بين الرجلين والناس تقتل في الجبهات. أما الخطوط الخلفية فالناس تأكل وتشرب وتتناكح، باستثناء أخبار الحرب ومن يموت فيها ومقدار زحزحة خطوط القتال.
ولكن الغريب مع ربيع عام 2020، أننا في حرب عالمية مختلفة، فكل إنسان في المعمورة مهدد بالقتل من جندي غامض لا يرى بالعين المجردة. في الواقع هو وحش (غول) جائع في أشد الشراسة، يقضم في جثث بني آدم في كل مكان. وهذا القضم والافتراس يضرب في كل زاوية، فالناس في حالة رعب مقيم عن اليمين والشمال عزين.
حقيقة الحرب الجديدة عجيبة، وفي تقديري أنه لن يبقى بيت وبر ومدر إلا وسيدخله هذا الوحش الجائع فيفترس ويتابع. إنه يذكر بقرينه من عام 1918م، حين بدأ من أمريكا فافترس في سنة وسنتين أكثر مما أكلته الحرب العالمية الأولى قاطبة. تراوحت الأرقام بين 20 و30 مليون ضحية، وبعضهم أوصل الرقم إلى خمسين مليونا من الأنام.
هذا (الغول) الجديد لن يهدأ حتى يشبع من رميم الجثث، ولسوف يصل إلى حافة الذروة فيهدأ، ولكن متى؟ وهناك شيء اسمه (علم الأمراض الرياضي) يؤكد حقيقة نقطة التوقف، التي تتداخل فيها عناصر شتى من الإشباع والتوقف.
وفي قناعتي أن رقم الأموات سيرتفع إلى الحافة المليونية، ما لم يتم تكبيله بقطع سلاسل الاتصال. صديقي من مونتريال أسامة قال لي: لم أفقه عليك كثيرا مما تقول، ماذا تعني بسلاسل الاتصال؟
إنني أشبه اندفاع الوحش مثل السيارة، التي تأتي المطبات في طريقها تفرمل سرعتها. الآن لنتصور أن هذا الفيروس يقفز من كائن إلى آخر (بين البشر ونحن من الحيوانات بطريقة ما) فهو سوف يقف في الفرج والفجوات، التي لا تسمح له بالقفز بتوقف اتصال البشر ببعضهم بعضا. ولكن كل المشكلة هي أنه بمجرد كبح جماحه فقد يعود إلى سيرته الأولى إذا عدنا لطريقة حياتنا الأولى، فهو كائن غيّر حياتنا كليا.
علينا أن نفهم أن عالم الفيروسات عجيب غريب وفيه اختصاصات كما كان الحال في الطب، بين طبيب مخ وأعصاب، وطبيب جهاز هضمي، وآخر إخصائي في الجهاز التنفسي، كذلك كان الحال مع فيروسات البوليو وفيروسات الجدري وفيروسات التاج (الكورونا)، الأولى تلتهم الجهاز العصبي فيصاب الطفل والكهل في 24 ساعة بالشلل، وفي الثاني يتحول الوجه إلى سطح القمر بالنقر والحفر؛ بل والعمى باجتياح القرنية، وصاحبنا الفيروس الجديد «كوفيد 19» يحب الجهاز التنفسي حبا جما؛ فيدخل إليه ويمتص رحيقه فيختنق المصاب من الداخل، وكل العالم المحيط به يعج بالهواء وتضربه النسمات الجميلات ولكن لاوزر.
هذه هي لعنة الفيروس الجديد وعلينا أن نفهم أن ملايين الناس لو ماتت، فإن الجنس البشري عصي على الفناء؛ فإذا مات من الخليقة 70 مليونا، فإن الجنس البشري يتكاثر في كل ثانيتين بقذف ثلاثة أجنة من الأرحام، وحاليا قفز الرقم البشري إلى حافة المليارات الثمانية (7,8)، ومع كل شروق شمس تقذف الأرحام أكثر من 300 ألف من البشر (البيبي) يصرخون، ومع كل غروب شمس يدلف إلى المقابر أكثر من 140 ألفا ويزداد الجنس البشري كل 24 ساعة حوالي 150 ألفا أو يزيدون. وفي كل عام يزداد الجنس البشري 170 مليونا من الأنام.
حاليا في الصين 1,4 مليار من الأناسي، وفي الهند 1.3 مليار وفي مصر قفز الرقم فوق 100 مليون وفي الحبشة 140 مليونا وفي أندونيسيا قريبا من 250 مليونا من الأنام وهكذا. وعلى فرض خسارة الجنس البشري 70 مليونا في سنة؛ فهو يعوض هذا الرقم في أقل من ستة أشهر.
هذا الحديث يحمل الكثير من التراجيديا للأفراد، كما قال رئيس الوزراء البريطاني جونسون إننا سنخسر بعض من نحب، ولكن في رؤية البانوراما للجنس البشري فلا خوف علينا والجنس البشري عصي على الفناء، حتى لو اندلعت حرب نووية.
ويخبرنا تاريخ الأنثروبولوجيا أنه قبل 75 ألف سنة كاد أن ينتهي الجنس البشري بعد اندلاع بركان في أندونيسيا قذف إلى المحيط الخارجي من الأتربة ما حول الجو إلى ما يشبه الشتاء النووي، وتابع الجنس البشري رحلته بأعداد قليلة. ولم يصل رقم البشر إلى المليار الأول إلا عام 1800 م. ولربما لم تكن أعداد الجنس البشري تزيد عن 300 مليون نسمة، أيام السيد المسيح (عيسى بن مريم). وحين اندلع ما عرف بالجريب الإسباني، ظن الناس أنها نهاية العالم ولكن انقشع الجو ورجع البشر إلى حياتهم وتفاهاتهم أيضا وعبثهم ومجونهم واستغلالهم بعضهم بعضا. وكأن شيئا لم يكن، كما يقول القرآن إنه إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليهم فلما كشف عنهم الضر مروا كأن لم يمسهم، بل وهم في البحر لجؤوا إلى الله لئن أنجاهم ليفعلن الخير فلما نجاهم أشركوا به وعبدوا طواغيت البشر، كما يعبد التافهون البراميلي السوري، الذي يزعم كاذبهم من وزارة الصحة أن سوريا قضت على فيروس الإرهاب، أما الكورونا فلم يسمعوا به بعد، كما فعل أسيادهم من طهران حتى تفجرت الأرض من تحت أقدامهم بالأموات، وهم يرسلون الأحياء في سوريا إلى الموت، بدعوى أنهم أبناء يزيد. وهذا يؤكد أن خرافات البشر وصراعاتهم أكبر من كل مرض.
حاليا يهجم الوحش ويعرف الناس أنهم عائلة واحدة في كل الأرض، وأن الفيروس مثل الموت ديموقراطي لا يفرق بين العقائد والأجناس والأديان والأموال، ويقول لنا إن كل صراعاتنا سخيفة أمام هذا المرض، وإن الحضارة هشة، والجنس البشري خلق ضعيفا، وإن التزود للأزمات هو في أسوأ أوضاعه؛ اللهم إلا الاستعداد للأذية والشر والحقد والكراهية والحرب. ومن هذا الرحم الشيطاني ولد الشر الأعظم الحالي، بتاج من الكراهية (الكورونا).