أشم رائحة السياسة
حسن البصري
يقول الكاتب رشاد كامل، في كتابه «عبد الناصر الذي لا تعرفه»، إن الرئيس المصري كان يشجع فريق الأهلي سرا، وإن بيت الرئيس كان يعيش فرحة ظاهرة كلما فاز الأهلي، لكن الرئيس عبد الناصر كان حريصا على أن تبقى «أهلاويته» من أحد أسرار الدولة العليا، حتى يبقى رئيسا لكل المصريين.
لا أحد اليوم يعرف على وجه الدقة الأسباب الحقيقية التي تدفع السياسيين في المغرب، إلى إخفاء انتمائهم الكروي، وكأنه سر من أسرار الدولة لا يمكن الإفصاح عنه، فقد نعرف انتماءهم القبلي وشجرة عائلتهم وصحيفة سوابقهم العدلية والعاطفية، لكن معرفة لونهم الرياضي مستحيلة.
توقف نبض الدار البيضاء وتحولت «كازابلانكا» إلى مدينة النحاس خلال تسعين دقيقة، وهو الزمن الافتراضي لمباراة في كرة القدم، امتد الموت الإكلينيكي للعاصمة الاقتصادية لدقائق أخرى، يصفها الراسخون في علم الكرة بالوقت بدل الضائع.
تستطيع مباراة كرة بين الوداد والرجاء أن تعيد ترتيب أثاث العاصمة الاقتصادية على نحو آخر، وتزرع في شوارعها علامات تشوير تجعل المنع قاعدة والسماح استثناء، ولأن الرجاء والوداد قد تحولا إلى طوائف ومذاهب فإن كل الوزارات تصبح معنية بمباراة الكرة، ابتداء بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تستنفر خطاب الجمعة ليدسوا في خطبهم ما تيسر من تحذير، ضد «ديربي» يزرع الفتن ليحصد الأهل المحن، وانتهاء بوزارة الداخلية التي تستعد لمباراة كرة أكثر من استعدادها لتجمع سياسي، لأن الوداد والرجاء يتفوقان على أعتد الأحزاب السياسية في الاستقطاب الجماهيري.
على امتداد تاريخ الغريمين التقليديين الوداد والرجاء، كانت السياسة حاضرة محشوة في الكرة إلى جانب الهواء الفاسد، كان لكل فريق سياسيوه الذين يزورونهم ويتبركون بهم كما تتبرك العاقر بولي صالح.
عندما حاز الرجاء البيضاوي على أول كأس للعرش سنة 1974، قرروا إهداءها إلى الزعيم النقابي للاتحاد المغربي للشغل المحجوب بن الصديق داخل السجن، بينما اختار الوداديون حمل كأس العرش إلى مقبرة الشهداء سنة 1970 ووضعوها على قبر مدربهم عبد الحق القدميري، وهم يتقاسمون معه فرحة الظفر بالكأس.
كان الرجاويون يفتخرون بحيازة حقائب وزارات مؤثرة، خاصة حين كانت تداريبه تشهد حضور رجال الدولة كالمعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي ومحمد أبيض وعبد العزيز المسيوي، وعبد الواحد معاش، الأمين العام السابق لحزب الشورى والاستقلال، ومحمد حصاد وصولا إلى صلاح الدين مزوار. ورغم أن الحسن الثاني كشف في «ذاكرة ملك» عن محاولة اغتياله من رئيس سابق للرجاء البيضاوي يدعى حجاج. وكان للوداد دروعه السياسية، كعبد الرحمان الخطيب والطاهري الجوطي وبن سالم الصميلي والسفير عبد الرزاق مكوار وإدريس جطو، قبل أن يقتحم «جرار» حزب الأصالة والمعاصرة سهول الوداد ويتحول إلى فزاعة في حقل الكرة، مع سعيد الناصري وصلاح الدين أبو الغالي، وصلاح الدين الشنكيطي وأسماء أخرى تلتقي في مقر الحزب وملعب الوداد.
شاءت الأقدار أن يسلم المعطي بوعبيد الروح لبارئها ليلة مباراة «الديربي» البيضاوي، في ليلة الفاتح من نونبر 1996 لفظ المعطي آخر أنفاسه، وفي اليوم الموالي كان الجميع على موعد مع «الديربي»، توجه مئات المشيعين من المقبرة إلى مركب محمد الخامس، لأول مرة في تاريخ «الديربي» يجتمع جمهور الفريقين حول كلمة واحدة، فقد قرأ الجميع الفاتحة على روح الفقيد قبل انطلاق المباراة، ولأول مرة تلتقي حافلة الرجاء والوداد في مقبرة ويتصافح السائقان ويتبادلان التعازي.
كادت أسماء الوزراء أن تكتب على قمصان اللاعبين كرعاة رسميين، وفي زمن مضى كان لكل فريق وزير في الحكومة، قبل أن ينسحب الوزراء الداعمون ويحل محلهم منخرطون لا يجمعهم بالكرة إلا الخير والإحسان. انسحب الوزراء من ملاعب الكرة، واستولى على الفرق مسيرون أشبه بوزراء في مكاتبهم، لهم دواوين ومستشارون وحرس خاص ومقص للتدشينات، لكنهم خالدون فيها أبدا.