أسكاس أمباركي
شامة
كثرت التهاني على العالم الأزرق بالسنة الأمازيغية الجديدة، وتبادل شعب «فيسبوك» الاحتفال بهويتهم الأمازيغية، ومن ضاعت عليه هويته في متاهات الترحال، اكتفى بالاحتفال بما تبقى فيه من ثقافة «إيمازيغن». ولأن العالم الافتراضي لا يعكس دائما واقع الحال، كما أن واقع الحال ليس بالضرورة هو ما نراه في العالم الافتراضي وإن أراد البعض إيهامنا بعكس ذلك، فلن تجد أحدا صادقا سيتمنى أن تكون السنة الأمازيغية الجديدة سنة نهاية «الميز العنصري» بين الذين يرون أنفسهم أمازيغا أصحاب الأرض، وأولئك الذين يضطرون للدفاع عن أنفسهم ضد «استعلاء» الأمازيغ عليهم.
ولدت في حي نعرف به جيراننا بالمناطق التي يتحدرون منها، عرف بيتنا بأنه «دار الوزاني»، وجيراننا على يسار المنزل بـ«دار الشلوح»، وجيراننا على يمين المنزل بـ«دار دكالة»، وجيراننا في الزقاق الخلفي بـ«دار سهول»، وبجوارهم يقع منزل كنا ننادي أهله بـ«دار غرباوة»، وأسفل المنزل كنا نعرف أهله بـ«دار التطوانية»، وخلفهم كان يقع منزل «دار جبالة»، وبجوارهم كان يتواجد منزل «دار الصحراوي».
كان الحي عبارة عن خريطة مصغرة للمغرب، لكنها خريطة تعكس أيضا هذا الصراع الاثني الخفي بين المغاربة. كان يظهر جليا في المناسبات المفرحة، ويختفي في المناسبات الحزينة. في الجنائز، تذوب هذه الخلافات والحساسيات التي توارثها المغاربة عبر التاريخ، الموت هو اللحظة الوحيدة التي كانت توحد اختلافات أسر الحي الخفية، لكنها تعود للظهور في مناسبة مثل حفل الزفاف. كان منزل «الشلوح» دائما مغلقا على نفسه، لا يطؤه إلا من هم من قبيلته، من يتحدثون لهجته. كان الجد والأب، والابن والحفيد، من طينة طيبة، لطفاء، مؤدبين، يشرفون على «لهري» الذي فتحوه في الحي لإطعام باقي قبائل الحي، لكن زوجاتهم لم يكن مسموحا لهن الاختلاط بباقي اثنيات الحي، لذلك المنزل الوحيد الذي كن يقمن بدعوة نسائه لحفل زفاف كان منزلنا، أي «دار الوزاني»، ومنزل «دار التطوانية»، ربما لأن منزل «دار الشلوح» كان يعرف أن سكان منطقة الشمال، حتى وإن فقدوا لسانهم الأمازيغي، فهم أمازيغ تم تعريبهم، لكن لباس نسائهم القديم ولهجتهم الجبلية يذكران أصحاب اللسان الأمازيغي بأنهم كانوا مثلهم أمازيغ، وأنك قد تجد في المغرب عائلات تتحدث بلسان أمازيغي لكنها ذات أصول عربية. لقد قالها ابن خلدون: «في المغرب لا تستغرب»، لكننا لم نعد فقط نستغرب، بل إننا نصر على أن ننسى.
ننسى، ونحن نتبادل التهاني بالسنة الأمازيغية الجديدة، أن كثيرا من العائلات الأمازيغية لا تزال ترفض المصاهرة مع مغاربة ليسوا مثلهم، يتحدثون بالأمازيغية، ويتحدرون من مناطق أمازيغية. ننسى أنه حتى بين الأمازيغ، لن تجد سوسيا يقبل بمصاهرة أمازيغي من الأطلس المتوسط، سيفضل أن يركض نحو مغربي من أصول فاسية، لأن السوسي يبحث عما يكمل ما ينقصه، وهو موجود في الفاسي، كذلك الفاسي سيبحث في السوسي عما يكمله، الفاسي يتحدث لغة المال، سيركض أيضا نحو الدكالي رغم أنه يرى فيه مجرد «عروبي»، لكن «فلوسو زوينة»، وينسى الفاسي أن الدكالي كان أمازيغيا قبل أن يتم تعريبه، كما نسي الفاسي نفسه أنه خلق في مدينة هي في الأصل أمازيغية، وأهلها أمازيغ. ابن خلدون نسي أن يقول «في المغرب لا تستغرب فالمغاربة مصابون بالنسيان»، أو لنقل التناسي، نتناسى أن العائلات الأمازيغية ستعارض بشدة تزويج ابنها لامرأة من غير أصول أمازيغية، وربما لن تعارض بالشدة نفسها تزويج ابنتها من رجل غير أمازيغي، لكن نظرات الشفقة سوف تلاحقها أنها «بارت»، لذلك اضطروا أن يعطوها لـ«راجل براني»، غريب عنهم، حتى لو كان مثلهم مغربيا. في المغرب، لا يكفي أن تكون مغربيا لكي لا تتعرض للميز العنصري من قبل المغاربة، أنت لا تتعرض لهذا الميز من أجنبي، أنت تتعرض له كل يوم، على أرض بلدك، ومن قبل أبناء وطنك.
هذا الميز العنصري الذي يمارسه أغلبية غالبة من أمازيغ هذا البلد بسبب اختيارهم الانغلاق على أنفسهم، بعد أن خذلهم العربي، يمارسه أيضا أمازيغ ليبيا، هؤلاء الذين كان القذافي يرفض الاعتراف بهم، وكان يفخر بأنه عربي إفريقي، تعرضوا لتهميش بغيض. ومعروف أن المجموعات الاثنية والعرقية التي تتعرض للاضطهاد أو للتهميش تظل تعيش تحت تأثير «متلازمة الضحية»، حتى وقد استطاعت أن تفرض نفسها في المجتمع الذي مارس عليها الاضطهاد. ونلاحظ جليا هذه المتلازمة في اليهود، وأفارقة أمريكا وأيضا عند الأمازيغ، بل حتى في الفلسطينيين الذين لم يولدوا في فلسطين، وولدوا في دول غربية من أسر ثرية.
هذا المسكوت عنه في المجتمع المغربي، الفاسي الذي لا يتزوج إلا من عائلة فاسية، وإن صاهر من عائلة من منطقة جغرافية أخرى مثل سوس أو الصحراء، أو دكالة أو الشمال، يكون الدافع هو المصلحة التي أسقطت شرط الجغرافيا، وهو ما يفعله أيضا السوسي الذي يتشبث بقاعدة المصاهرة من منطقته نفسها ولا يسقطه لصالح منطقة أخرى إلا المصلحة، كذلك المتحدرون من الصحراء يظلون متشبثين بالمصاهرة من منطقتهم، وتسقط المصلحة هذا الشرط فيضطرون للبحث عن سبب يبررون به مصاهرتهم من منطقة جغرافية مختلفة، فقط لتغطية الدافع الحقيقي وهو «المصلحة»، وغالبا يكون هذا المبرر أن هذه العائلة التي تتحدر من منطقة جغرافية مختلفة تتحدر من «نسب شريف»، وهذا ما كان يبرر الانفتاح.