أزهار البوغانفيليي
تشير الساعة إلى العاشرة صباحا، موعد قهوتي التي أفضل أن أشربها وأنا أقف بشرفة المكتب، أرمق أزهار البوغانفيليي وهي تبتسم لأشعة الشمس الأولى التي تمتد فوق جدار الساحة المقابلة للملحقة الإدارية، حيث يقبع مكتبي في الواجهة.
كانت لدينا أزهار بوغانفيليي في زمن ولى، كانت تزين حائط المنزل المطل على المحيط الأطلسي بالمدينة العتيقة، لكن البوغانفيليي لا يقبل بغير الدفء، لم يكن يستطيب العيش بيننا إلا قليلا، كان يرحل حين تعصف أول ريح شتوية، شأنه في ذلك شأن كل الكائنات والأشياء التي رحلت عن ذاك المنزل…
لا أدري لم أتذكر الآن كل تلك التفاصيل؛ وخاصة اللوحات التي كانت تغطي مساحة الجدران، فبالرغم من البياض الذي كان يعم كل شيء؛ بدءا من الجدار مرورا ببراءتي، فقد كانت الألوان ورائحة الصباغة الزيتية تملأ المكان، تتحدى الرطوبة وعناد الفصل البارد، المصر على الإقامة بيننا لعدة شهور، ما كان يغضب حقا حطب التدفئة، الذي يصير عصيا على الاشتعال، فأحيانا كنت أتخيل شوارع بقلبي قد أضاءت ما حولها وتوهجت واشتعلت حرائق، بدل الحطب الذي فضل الانتعاش بالرطوبة والنوم طول السنة.
في المساء كنت أحب أن أمارس بعض الشغب، كأن أطفئ النور وأجلس قبالة لوحتي محمد الدريسي، لكي أدخل معها في حوار ممتد عبر تلك الوجوه المخيفة وخطوط الفرشاة المتراقصة والمتمايلة، والألوان الصاخبة، إيحاءات مجنونة تتداخل بأصوات وإيقاعات غريبة، كانت تمنع عني لحظة السكينة هاته وكانت تحول بيني وبين ممارستي لعشق استثنائي بكل المقاييس، لقد تفننت في ابتكار الأساليب وأحيانا المؤامرات لتكسير الرتابة التي كانت تقفز من لوحة إلى لوحة، كنت أطاردها كمن يطارد بعوضة في هزيع الليل، وهي تجثم فوق اللوحة الكبرى التي استوطنت عرض الجدار المقابل لبوابة المنزل والتي بإمكانها أن تنظر إليك حيثما غيرت مكانك في ذلك البهو، المنفتح/ المنغلق على السكون والضجر… تلك اللوحة عنونتها ب «وجوه» والحقيقة كان وجها وحيدا مريعا، استحم بكل الألوان التي وجدت بالمشغل، فلم يعد بارزا سوى زرقة العينين وحمرة الشفاه، وكنت أردد في قرارة نفسي، أن العيون والشفاه أهم العناصر التي تسهل مخاطبتها في كل التجليات والأحوال: عين تدمع للحزن وللفرح، وشفاه تشتهي تقبيل الابتسامة المرحة والحزينة على السواء… هو ذا الوجه الذي ظل يطارد لعنتي طيلة تسع سنوات من الغياب.
وفي مساءات، أذكرها مثلما أذكر وصايا أمي عند البلوغ، كنت أنبطح فوق أرضية الخشب وأنظر إلى السقف؛ في الواقع لم تكن هناك سقوف، لا بالطابق السفلي ولا بالطابق العلوي، بل كان لوحا زجاجيا يغطي فوهة السطح، تمر عبره أشعة الشمس نهارا، وضوء القمر ليلا، بل إنني كنت أجلس بالساعات تحت الغطاء الزجاجي، في ليالي الفصل البارد، أنظر إلى القمر؛ هو الآخر كان يسترق النظر إلي، كان زائرا محتشما، بين الفينة والأخرى، يلتحف الغيوم ويتركني أعد تكات القلب في انتظار عودته، وعندما ينفد ما أدخره من صبر وتؤلمني رقبتي، أضطر إلى التمدد فوق أرضية الخشب، ولا أخفي إحساسي بالنشوة والارتياح كلما انبطحت أرضا، والجميل في ذلك أن القمر كان يعود لتوه ليسترق النظر من جديد.
كانت لعبة مسلية ومثيرة، تجعلني بالفعل قادرة على تحدي الملل وقسوة السؤال:
لم؟ لماذا؟ وكيف؟ ألم؟ ألن؟ وهل؟ فإلى متى؟ متى.. متى.. متى؟