أحوال أبي هاشم وأخواتها..
إلياس بلكا
علم الكلام هو علم الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية. وقد يسمى: العقيدة، أو أصول الدين. ويعرف هذا العلم نظريات متعددة وخصبة، وهو بقدر ما أجاب عن أسئلة وجودية كبرى في حياة الإنسان، بقدر ما أثار غيرها. وثمة دعوة اليوم لتجديد علم الكلام، والحديث عن «علم الكلام الجديد». وهي دعوة مشروعة في ضوء تطور العلوم ونمو المعارف الإنسانية.
وموضوع هذا المقال هو التنبيه على بعض النظريات الكلامية التي تجب مراجعتها اليوم، حيث من المتوقع أن يسفر ذلك عن نتائج معرفية مهمة. فليت بعض الباحثين أو طلاب الدكتوراه يدرسون هذا الموضوع ويفردونه بكتابة خاصة. وهذه أهم الأفكار المقصودة جمعتها على صعيد واحد لتقاربها الشديد.
الفكرة الأولى: الأحوال
نظرية الأحوال اشتهرت عن أبي هاشم الجبائي، وقال بها أبو بكر الباقلاني على صفة أخرى، بينما رجع عنها إمام الحرمين الجويني بعد أن اعتنقها زمانا.
والحال عند أبي هاشم هو واسطة بين الوجود والعدم، وله ثبوت في الخارج، أي الواقع، لكن لا استقلالا- كالسواد في شيء- بل باعتبار التبعية لغيره، كالقادِرِية والعالمية. أما نقيض الموجود فليس هو المعدوم، بل اللاموجود. يقول الشهرستاني -وهو أحد أفضل من تكلم في الموضوع في كتابه: نهاية الإقدام في علم الكلام-: «قال المثبتون: نحن لم نثبت واسطة بين النفي والإثبات، فإن الحال ثابتة عندنا… ولم نقل -على الإطلاق- إنه شيء ثابت على حِياله موجود، فإن الموجود المحدَث إما جوهر وإما عرَض، وهو ليس أحدهما، بل هو صفة معقولة لهما». فالسواد مثلا له أحوال، هي: الوجود والعرضية واللونية والسواد.
وقال الشهرستاني أيضا: «الضابط أن كل موجود له خاصية يتميز بها عن غيره فإنما يتميز بخاصية هي حال، وما تتماثل المتماثلات به وتختلف المختلفات فيه فهو حال، وهي التي تسمى صفات الأجناس والأنواع… والأحوال -عند المثبتين- ليست موجودة ولا معدومة، ولا هي أشياء، ولا توصف بصفة ما. وعند ابن الجبائي ليست هي معلومة على حيالها، وإنما تعلم مع الذات».
بينما اعتبر الباقلاني أن كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يُشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط.
الفكرة الثانية: المعاني
من الأفكار القريبة من نظرية الأحوال: فكرة المعاني لمعمر بن عباد المعتزلي. يقول: «كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام به.. فالحركة مثلا إنما خالفت السكون، لا بذاتها؛ بل بمعنى أوجب المخالفة، وكذلك مغايرة المثل المثل ومماثلته، وتضادِّ الضد الضد، كل ذلك عنده بمعنى».
فلو فرضنا جسمين، إذا تحرك أحدهما دون الآخر، فذلك لمعنى ما حلّ بالأول دون الثاني. ولو عندنا طاولتان، واحدة بيضاء والأخرى سوداء، أو واحدة خشبية والأخرى حديدية.. فهما لم تختلفا بالذات، بل بأمور عرضية، أو «صفات»، يسميها معمر: المعاني. لكنها موجودة غير معدومة.
الفكرة الثالثة: عدم بقاء الأعراض زمنين
وقد تبدو فكرة المعاني هي نفسها الأعراض، لكنها في الحقيقة مختلفة. والأعراض جمع عرَض، وهو ما يقابل: الجوهر. فالنسيج مثلا جوهره واحد، أما شكله وملمسه ولونه ورائحته فأعراض.. وهي موجودة، لكنها تقوم في غيرها أو بغيرها. وبعض علماء الكلام يرى أن وجودها متصل ومستمر، بينما قال الأشاعرة بفكرة: عدم بقاء الأعراض زمنين، فكل عرَض يبقى الزمن الفرد ثم يذهب، ويأتي مثله، ثم ينقضي.. وهكذا. لذا قال الأشاعرة بنظرية الخلق المستمر، فالله سبحانه يخلق الأعراض في الأجسام في كل لحظة بشكل مستمر، وهي النظرية التي تلقفها الفيلسوف الفرنسي مالبرانش.
ولهذه الأفكار علاقة وطيدة بمفهوم غامض ومهم هو: العدم.. لذلك سيكون موضوع الحلقة القادمة بحول الله سبحانه.