آخر لحظات حياة بن بركة كما رواها مقربون منه وأمل في كشف مصيره
الأخبار
من سخرية القدر والحياة، أن يكون المهدي بن بركة قد خطط لمشاهدة مسرحية في باريس خلال اليوم نفسه الذي اختُطف فيه. كان برنامجه في ذلك اليوم هو لقاء مُخرج فرنسي للعمل معه على فيلم «باسطا» الذي لم يكن المهدي متحمسا له وحسب، وإنما كان يخطط لاستعماله كدعاية لمؤتمر دول القارات الثلاث الذي كان يُعد له ليجرى في كوبا سنة 1966. لكنه كان على موعد مع مسرحية أخرى، أمام المقهى الذي سيلتقي فيه بالمخرج المفترض. ويختفي إلى اليوم.
كان القضاة الفرنسيون الذين أشرفوا على ملف اختفاء المهدي بن بركة يتبادلون الملف بعدد أوراق لا تتغير، نظرا لجمود في التفاصيل الرسمية المتعلقة بالقضية، اللهم إلا بعض الروايات الشفهية التي تدخل في إطار الشهادات. وغالبا ما تغيب فيها الأدلة المادية التي تقود إلى تحريك التحقيق من جديد.
++++++++++++++++++++++++++++++++
هل اقترب موعد كشف تفاصيل اغتيال المهدي بن بركة؟
من سخرية القدر والحياة، أن يكون المهدي بن بركة قد خطط لمشاهدة مسرحية في باريس خلال نفس اليوم الذي اختُطف فيه. كان برنامجه في ذلك اليوم هو لقاء مُخرج فرنسي للعمل معه على فيلم «باسطا» الذي لم يكن المهدي متحمسا له وحسب، وإنما كان يخطط لاستعماله كدعاية لمؤتمر دول القارات الثلاث الذي كان يُعد له ليجرى في كوبا سنة 1966. لكنه كان على موعد مع مسرحية أخرى، أمام المقهى الذي سيلتقي فيه بالمخرج المفترض. ويختفي إلى اليوم.
كان القضاة الفرنسيون الذين أشرفوا على ملف اختفاء المهدي بن بركة يتبادلون الملف بعدد أوراق لا تتغير، نظرا لجمود في التفاصيل الرسمية المتعلقة بالقضية، اللهم إلا بعض الروايات الشفهية التي تدخل في إطار الشهادات. وغالبا ما تغيب فيها الأدلة المادية التي تقود إلى تحريك التحقيق من جديد.
آخر من تحدث في الموضوع بطبيعة الحال كان هو رجل الموساد رافي إيتان الذي يعرفه العالم جيدا خصوصا في أوربا، لأنه كان مشاركا في عملية سنة 1960 تحدث عنها العالم أجمع وتتعلق باختطاف جنرال ألماني عاش لسنوات مختفيا في الأرجنتين بهوية مزورة بعد سقوط نظام «هتلر» النازي في ألمانيا.
هذا الرجل قال إن الجنرال الدليمي جاء إليه في نفس ليلة اختفاء المهدي بن بركة وطلب منه مساعدته على التخلص من الجثة، ليبدو حسب هذه الرواية أن الأمر يتعلق باغتيال مرتجل. فيما شاع لسنوات في أوساط المغاربة أن بن بركة صفي وذوبت جثته في الأسيد داخل التراب المغربي بعد اختطافه وقتله في باريس وترحيل جثمانه بشكل سري، يدين السلطات الفرنسية، إلى المغرب. ولم تكلف فرنسا نفسها عناء الإفراج عن الأوراق السرية المرتبطة بأجهزتها الأمنية لتنهي الجدل في الموضوع، وظلت إلى وقت قريب تعتبر الموضوع ضمن نطاق الأمور السرية لأمن الدولة، رغم أن الديموقراطية تقتضي الإفراج عن الأرشيف الأمني المتعلق بهذا النوع من القضايا خصوصا أن الكشف عنه لا يضر بمصالح أمن الدولة، ما دامت كل الأطراف المرتبطة بالقضية، غير موجودة.
يقول إيتان في تزكية روايته، إنه كان على اطلاع بتحركات زعماء عرب كثيرين، بل وقال خلال تلك المقابلة وبدم بارد، إنه قام بأدوار رئيسية في عملية اغتيالهم، لكن لم يسم أحدا منهم بالاسم، فهل يعقل أن يكون المهدي بن بركة واحدا منهم؟
من خلال كلامه دائما، يقول إنه ساهم في اغتيالات زعماء عرب، لكن في إفادته في موضوع المهدي بن بركة، يقدم نفسه كمستشار ساعد على دفن الجثة، التي احتار الدليمي في أمرها، وهو أمر غير منطقي بالمرة، خصوصا وأن إيتان يقدم نفسه إعلاميا على أنه رجل المخابرات المحترف.
هل كانت الأجهزة السرية التي يرأسها أوفقير، بدائية إلى الحد الذي تكون معه محتارة في أمر جثة معارض مغربي قامت باغتياله على التراب الفرنسي؟ ألم يفكروا في أمر إخفاء الجثة أو التخلص منها، قبل الإقدام على قتله؟ فحسب إيتان فإن الدليمي جاء يطلب منه طريقة للتخلص من جثة تورط فيها.
لماذا لم يتحدث لنا إيتان عن الفرنسيين الأربعة الذين شاركوا في عملية الاختطاف وكانوا يترددون على المغرب منذ بداية الستينات إلى أن نفذت العملية، على الرغم من أنه يقول إنه كان يتابع كل شيء بخصوص عمليات اغتيال «زعماء عرب» كما أسماهم.
اعتذار الرئيس الفرنسي، ماكرون، لفرنسا ولعائلة أستاذ فرنسي اختفى قبل المهدي بن بركة وبقي مصيره مجهولا رغم الضغوطات التي مارسها حقوقيون فرنسيون وغيرهم لمعرفة حقيقة اختفاء الناشط الفرنسي الذي كان يعارض سياسة بلاده ويدافع عن استقلال الجزائر.. يبعث على الأمل بخصوص قضية المهدي بن بركة أيضا. وربما يأتي يوم تفتح فيه هذه الصفحة، أو تُطوى. الله أعلم.
لغز الأسيد وقبر «دار المقري» الذي تبخر في الهواء
المعروف، في الأوساط المحلية على الأقل، أن المهدي بن بركة قد صُفي على يد جلاديه وأن الحقيقة لم تظهر حتى بعد أن خرجت روايات بعد سنة 1999 تؤكد ما ذهب إليه صحافيون فرنسيون كانوا يتابعون ملف الاختفاء والمحاكمات والتحقيقات المتعلقة به قبل أن توضع في درج الأرشيف ما دامت لم تقد إلى كشف الحقيقة..
لم يتسن حتى الآن التأكد من فرضية إذابة جثمان المهدي بن بركة في الأسيد في دار المقري التي يعرف عدد من المغاربة ما مورس تحت سقفها من تعذيب. حتى أن أصدقاء المهدي بن بركة أنفسهم وتلامذته سبق لهم المرور من تلك الدار ويعرفون ما يمكن أن يتعرض له ضيوفها من العذاب. لذلك لم يستبعد أحد أن تتم إذابة جثمان المعارض المغربي هناك. بقي فقط إثبات أنه دخلها فعلا، سواء حيا أو ميتا.
بالعودة إلى تقارير استخباراتية أمريكية، تسرب جزء كبير منها إلى الصحافة الأمريكية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، نجد أن جهاز CIA كان يتابع كل ما يقع في منطقة شمال إفريقيا، وأن جهاز الموساد الإسرائيلي كان مهتما بتحركات الأنظمة العربية خلال فترة الستينات، خصوصا خلال حربه مع مصر. عندما اشتم هؤلاء رائحة المعارض المغربي المهدي بن بركة وعلاقاته المتشعبة وما كان مبرمجا له من لقاءات أواخر العام 1965 ومفكرته المليئة بالمواعد التي أعلن عن بعضها لوسائل الإعلام الدولي بشكل صريح، عرفوا أن بن بركة مشروع سياسي مزعج بالنسبة لهم. وتقول نفس التقارير التي تناولها الإعلام الأمريكي، إن هذه الأجهزة تابعت على أعلى المستويات كل ما كان يقع في المنطقة.
ركزوا جيدا على «كل» لأنها تشمل أيضا تفاصيل قضية المهدي بن بركة. لا يمكن لمتتبع، عليم بالملف، إلا أن يشعر بالخيبة عندما يسمع تصريح رافي إيتان، لأنه لا يقدم أي شرح للغز من ألغاز الملف، بقدر ما يلقي فيها حجرة ليذكر المجتمع الدولي والمهتمين بأن الملف لا يزال على قيد الحياة.. على الأقل.
هذا التحليل، عمّر لأربع سنوات، عندما كانت شهادات المتقاعدين من المهمات القذرة، لا تزال موضة سارية المفعول. أما الآن، فالرأي العام يريد معرفة الحقيقة. والحقيقة تنام في نقطة مظلمة لم تصل إليها يد قانون رفع السرية عن الوثائق. لا شك أن الفرنسيين يعرفون جيدا ما وقع فوق ترابهم. نفس الأمر يتعلق بالـCIA التي كانت تنسق مع أطراف كثيرة وتتجسس عليها أيضا، ولا شك أنهم يملكون حصة من الجواب.
لا أحد تحرك لإنهاء لغز عمّر طويلا. ولعل اعتذار الرئيس الفرنسي لأسرة أستاذ فرنسي سابق للرياضيات عرف خلال الخمسينات بمواقفه المعارضة لسياسة بلاده، ومناصرته لاستقلال الجزائر عن فرنسا، سيبقى هو الأمل الوحيد في أن يأتي يوم تقرر فيه أعلى سلطة في الجمهورية الفرنسية إنهاء التكتم عن قضية المهدي بن بركة وكشف تفاصيلها السرية للعموم. تماما كما حدث مع قضية اختفاء المناضل الفرنسي الذي ظلت عائلته طيلة سنوات تطالب بكشف مصيره قبل أن تعلن فرنسا اعتذارها لعائلته ولأصدقائه، لأن اغتياله وتصفيته كانا يرتبطان بعمل الأجهزة السرية الفرنسية في تلك الفترة.
لماذا إذن لا تتبرأ فرنسا من عمل الأجهزة القديمة التي كانت ترعى المصالح الخاصة في تلك الظرفية، وتخبرنا الحقيقة؟
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
الساعات الأخيرة من حياة «الرجل» الغامض
عندما حاول الفرنسي جاك درجي، التنقيب في ملف اختفاء المهدي بن بركة مباشرة بعد النطق بالحكم في القضية سنة 1966، أي سنة واحدة فقط على الاختفاء، ليعاد بطبيعة الحال فتح القضية من جديد في وقت لاحق بضغط من عائلة المهدي بن بركة والراغبين في معرفة مصير المعارض المغربي الشهير، وجد هذا الصحفي أن خيوطا كثيرة تتعلق بموضوع الاختفاء تأخذ إلى «الفراغ» في نهايتها، وأنها لم تكن مبنية على أية أسس أو وقائع ملموسة، وإنما كان الغرض منها كان هو تضليل دفاع عائلة المهدي بن بركة من جهة، والاتحاديين المغاربة الذين كانوا يبحثون عن معرفة حقيقة اختفاء مؤسس الحزب.
يقول جاك درجي إن المهدي بن بركة عندما نزل في باريس خلال شهر أكتوبر سنة 1965، كان يعتبر نفسه ملاحقا، ويتخذ احتياطات اعتبرها معارفه مبالغا فيها. إذ كان يركز على ألا يعرف أي أحد مكانه بالضبط فور خروجه من المطار باستثناء أخيه الذي كان مستقرا في ألمانيا، ويلتقيه في باريس كلما حط الرحال في أوربا، بالإضافة إلى الأزموري، الذي كان وقتها يتابع دراسته العليا في باريس ويحرص بن بركة على لقائه وتناول العشاء في منزله.
في نفس المساء الذي وصل فيه المهدي بن بركة إلى باريس، كان قد اتصل بصديقه المقيم في باريس، وطلب منه أن يقتني تذكرة له لحضور عرض مسرحي في باريس. وبعد فترة قصيرة أعاد بن بركة الاتصال وطلب من صديقه إن كان ممكنا أن يقتني تذكرة إضافية لأنه ينوي إحضار شقيقه معه.
شقيق بن بركة، كان موضوع سؤال طرحه صحافي فرنسي على المباشر، اسمه رجلند سلالر، وكان وقتها مراسلا معتمدا، في إحدى حلقات البرامج السياسية، وخلق السؤال أزمة في الأوساط الأمنية الفرنسية، حتى أن إدغار فور نفسه تدخل في اتصال هاتفي لكي يستفسر عن بعض التفاصيل التي وردت في التقارير السرية لأجهزة المخابرات التي عادت لتدقق في متابعاتها للتوقيت الذي دخل فيه بن بركة إلى باريس.
ضاع العرض المسرحي إذن الذي كان يحمل عنوانا يمكن ترجمته إلى صيغة تقريبية تعني «موت الجنرال». لكن الحقيقة أن موضوع الموت كان يلاحق المهدي بن بركة شخصيا أكثر مما كان يلاحق أحدا آخر، إلى درجة أن فرضية اغتياله كانت قائمة منذ الساعات الأولى لإعلان خبر اختفائه بتلك الطريقة.
نشرت الصحافة الباريسية أثناء أطوار متابعتها الإعلامية لموضوع اختفاء المهدي بن بركة، ما مفاده أن المعارض المغربي كان قد دخل إلى باريس مستعملا جواز سفر دبلوماسي جزائري سُلم له في القنصلية بالعاصمة المصرية القاهرة. ولم تكن العلاقات بين بن بركة والجزائريين لتخفى على أحد. هو نفسه لم يكن يُخفي تقاطع أفكاره الثورية مع قيادة الثورة الجزائرية. وعندما صدر ضده حكم غيابي بالإعدام أثناء أزمة 1960، كانت الجزائر هي الملاذ الأول الذي لجأ إليه المهدي بن بركة ليعبر منها إلى فرنسا ويبدأ في تكثيف أنشطته السياسية وأيضا الإعداد لمؤتمر القارات الثلاث، الذي كان ينوي المشاركة في جلسته الافتتاحية في كوبا سنة 1966. وهو المؤتمر الذي كان يضايق الأمريكيين كثيرا، خصوصا أن الأزمة مع الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة ضد موسكو كانت على أشدها. رحل المهدي، لكن محاولات طمس اسمه باءت بالفشل.
من يعرف الصحافي الذي أحضر بن بركة إلى الفخ؟
المعروف أن المهدي بن بركة، قبيل اختطافه، كان على موعد مع صحفي فرنسي هو فيليب بيرنييه، الذي اقترح عليه المشاركة في فيلم يتحدث موضوعه عن التحرر من الاستعمار، وتيمة الثورة التي كان يدافع عنها بن بركة في كتاباته بشكل معلن.
ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا الصحافي الفرنسي حاول كثيرا الدفاع عن نفسه وتبرئة اسمه من معرفة أية تفاصيل عن اختفاء المهدي بن بركة أو اغتياله. كان هذا الصحافي يردد كثيرا أن ذلك اللقاء في مقهى «ليب» في باريس، كان هو ثالث لقاء فاشل يعقده مع المهدي بن بركة الذي كان إما يعتذر في آخر لحظة عن الحضور، أو يعتذر مسبقا عن الموعد المتفق عليه، وهو الاعتذار الذي كان مبررا بحكم أن المهدي بن بركة لم يكن وقتها يقيم بشكل دائم في فرنسا وإنما يزورها بشكل متقطع أو يعبر منها إلى دول أخرى، خصوصا سويسرا التي كان يقضي فيها أسابيع طويلة للإعداد للمؤتمر.
يقول هذا الصحافي الفرنسي إن فكرة الفيلم اقتُرحت عليه ولم يكن هو الذي بادر إليها، وإنما طلب منه إخراج السيناريو الذي قُدم له من طرف صحافي آخر بحضور فيغون الذي أثير اسمه كثيرا بعد اختفاء المهدي بن بركة واتهمه سياسيون فرنسيون بارزون بالتواطؤ مع الأجهزة المغربية لاختطاف بن بركة باستعمال زي البوليس الفرنسي لتوقيفه.
«الاتفاق مع بن بركة على الفيلم كان هاتفيا. وعبر لي عن إعجابه بالفكرة هاتفيا عندما كان في سويسرا واعتذر لي منذ الموعد الأول بعد أن بقيت على الرصيف أنتظره لأزيد من ساعة». هكذا أبعد الصحافي الفرنسي التهمة عن نفسه، بعد أن اتهمه رفاق المهدي بن بركة وأصدقاؤه بأنه التقاه وحرص على ابتلاعه الطعم، منكرا أن تكون له دراية مسبقة بخطة مدبّرة وأنه كان يعتقد أن فكرة الفيلم لا تزال قائمة إلى أن طالع كغيره اختفاء المهدي بن بركة.
تقول بعض الأوساط الأمنية، إن المسؤولين عن الاختطاف هم الذين ارتجلوا قضية المشاركة في الفيلم مقابل تعويض مالي مهم يستفيد منه المهدي بن بركة لأنهم كانوا يعلمون أنه كان يبحث عن تمويلات مالية لتغطية نفقات الإعداد لمؤتمر الدول الثلاث بكوبا، حيث كانت المخابرات الأمريكية تتابع تحركات بن بركة بكثير من الانزعاج.
كانت آخر كلمة سمعها صاحب الفيلم والتي أوردها في شهادته عن القضية: «آخر ما قاله لي المهدي بن بركة أنه سيعاود الاتصال بي عندما حددنا الموعد النهائي في «ليب». وعندما حان الموعد بقيت أنتظره لأزيد من ساعة».
تفرق دم بن بركة إذن بين القبائل. فالوسط الحميم الذي كان بن بركة ينوي مشاهدة المسرحية معه بحضور أخيه عبد القادر الذي انقلبت حياته رأسا على عقب بعد اختفاء أخيه، بقي تائها لفترة طويلة بين كل هذه التفاصيل التي كان الجميع داخلها يحاول إبعاد التهمة عن نفسه وإلصاقها بالجدار.
«المهدي» كان اسما ممنوع التداول بالبرلمان
عندما كانت قضية اختفاء المهدي بن بركة في باريس لا تزال طرية، كان الاتحاديون يواجهون استفزازات داخل قبة البرلمان، خصوصا قبيل انتهاء مرحلة حالة الاستثناء.
ولم يكن وزراء في بعض الحكومات، خصوصا حكومة باحنيني، يترددون في الركوب على اسم المهدي بن بركة، لتخوين نواب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان في المعارضة كلما قام أحد الاتحاديين بإحراج وزير بمداخلة من المداخلات النارية التي كانت شهيرة في ذلك الوقت.
وهكذا أثيرت أزمة كبيرة في الوسط السياسي، عندما قام أحد الوزراء مباشرة بعد انتهاء حالة الاستثناء مع بداية السبعينات، بالصراخ داخل قبة البرلمان في وجه أحد الاتحاديين متهما إياه بالدفاع عن المهدي بن بركة الذي نعته بـ»الخائن»، ولم يتقبل الاتحاديون هذا الأمر ليتحول الموضوع إلى أزمة، سرعان ما انطفأت تحت القبة بحكم أن الوضع السياسي للبلد لم يكن يتيح فرصة التعبير عن الاحتجاج ضد وزير مغربي لطخ اسم المهدي بن بركة الذي كانت قضيته وقتها لا تزال طرية.
وحسب بعض المعطيات التي تم تداولها بسرية بالغة، فإن الراحل محمد الفقيه البصري، كان يتابع من باريس تطورات الشأن السياسي في المغرب، وأخبر بعض رفاقه في منفاه أنه لن يتردد في استعمال السلاح لقلب النظام السياسي في المغرب، ما دام المسؤولون المغاربة يسيئون بتلك الطريقة إلى صورة المهدي بن بركة.
وقد تم تداول أخبار، اعتبرت سرية وقتها، مفادها أن الملك الراحل الحسن الثاني، أخبر كلا من الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وبعض مستشاريه أن يوجهوا وزراء الحكومة إلى عدم الخوض في مثل تلك المواضيع وعدم تخوين المنتمين إلى المعارضة.
لقد كانت بعض الأوساط «المخزنية» المحافظة، تنظر إلى اليسار والتوجه الذي كان يمثله المهدي بن بركة، على أنه «اختيار» ممنوع كان الغرض منه الإساءة إلى النظام المغربي وليس ممارسة المعارضة السياسية من داخل البرلمان.
أما المحافظون فقد كانوا يحتمون بحكم المحكمة الباريسية التي قضت بتبرئة الجنرال الدليمي، الذي لم يصبح وقتها جنرالا عسكريا بعدُ، من دم المهدي بن بركة. وتداولت الصحافة الفرنسية وقتها هذا الموضوع، واعتبرت أن حكم القضاء الفرنسي لا يعني أن فرضية ضلوع مسؤولين مغاربة كبار في لغز اختفاء المهدي بن بركة قد انتهى. وبقي الجنرال أوفقير محط شك كبير من طرف الاتحاديين خصوصا بعد فشل انقلاب الطائرة الملكية وانتهاء المرحلة التي كان فيها الجنرال يجمع بين يديه كثيرا من السلط والصلاحيات أيضا، بمعية الدليمي الذي كان بدوره يؤسس لبقائه في السلطة والإشراف على الملفات الحساسة للدولة، وعلى رأسها ملف الصحراء.
لكن المعارضة في فرنسا، لم تنس اسم الجنرال الدليمي في القضية، وبقيت تضايقه في كثير من المناسبات التي تزور فيها لجن المعارضة الفرنسية أو المؤسسات التابعة لها، المنطقة الجنوبية في إطار متابعة وضعية حقوق الإنسان في المنطقة. وقد كان الدليمي خلال نهاية السبعينات على الخصوص، يعاني كثيرا بهذا الخصوص إلى درجة أن القيادي الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد تدخل بنفسه وطلب من زوجة الرئيس الفرنسي ميتران، ألا تحاول مضايقة الجنرال في إحدى زياراتها إلى المخيمات، ونصحها ألا تعطي تصريحات نارية للصحافة الفرنسية، عندما كان الجنرال يشرف على الملفات الأمنية في الحرب ضد البوليساريو، لتلغي زوجة الرئيس الفرنسي الأسبق الزيارة «الحقوقية» التي كانت تنوي القيام بها إلى منطقة المخيمات.
لم تكن السيدة ميتران، تتردد في إثارة موضوع اختفاء المهدي بن بركة، إلى درجة أن بعض الأوساط الصحفية الفرنسية اتهمتها بمحاولة ممارسة ضغط «حقوقي» على المغرب باستعمال اسم المهدي بن بركة لتوسيع أنشطة المنظمة التي تمثلها، أو للحصول على تمويلات لها.
لماذا تحدث الموساد عن «الجثة» بعد الصمت لسنوات؟
كل الذين كانوا يتابعون قضية المهدي بن بركة وحققوا فيها وكتبوا عنها إبان انفجارها، استغربوا لطريقة «هوليود» التي تحدث فيها ضابط الموساد السابق «رافي إيتان» عن لغز اختفاء المهدي بن بركة، بعد سنوات على تقاعد هذا الضابط السابق، الذي كان فعلا موجودا بباريس خلال يوم اختفاء المهدي بن بركة، على خلفية أنشطة تتعلق بتحركات الموساد في أوربا.
لماذا اختار رافي إيتان أن يتحدث عن قضية المهدي بن بركة بعد سنوات على تجميد تفاصيلها، إلى درجة أنه مرت أزيد من عشرين سنة (حاليا وليس من يوم الاختفاء) لم يثر خلالها أحد أي تفصيل جديد في قضية اختفاء بن بركة من شأنه مثلا أن يحث القاضي على محاولة فتح تحقيقات من جديد أو استدعاء شهود جدد في القضية.
عندما تحدث رافي إيتان عن قضية اختفاء المهدي بن بركة، كان ينوي الذهاب بالقضية بعيدا في الحقيقة، حتى أنه قال ببرود في وسائل إعلام، فُتحت له خصيصا للحديث عن الملفات التي عاينها عندما كان رجل العمليات في الموساد، إنه كان يعرف جيدا الجنرال المغربي أحمد الدليمي. هذا الأخير جاء إلى شقته في باريس مذعورا وكان يطرق الباب بعنف، ليفتح له رافي إيتان، كما يقول، ويحاول تهدئته.
الدليمي طلب من إيتان أن يدله على أفضل طريقة للتخلص من جثة المهدي بن بركة بعد تصفيته في باريس. ليدله رجل الموساد إلى طريقة قديمة هي «وضع الجير فوق الجثة قبل دفنها».
لم يكن أحد من المعنيين بالملف، مقتنعا برواية رجل الموساد المتقاعد رغم كل ما تحمله من إثارة. وقرأها صحافيون فرنسيون على أنها محاولة لضرب نتيجة الحكم النهائي الذي يعود إلى سنة 1966. كما اعتبرها آخرون جبنا كبيرا، خصوصا أن أغلب المتخصصين في قضية اختفاء المهدي بن بركة قد غادروا الحياة ولم يعد بمقدورهم الاطلاع على رواية «الموساد» للرد عليها أو تحليلها على الأقل، وربما أيضا تكذيبها في أفضل الحالات.
أما عن السبب الذي يجعل رجلا متقاعدا يثير الموضوع بعد أزيد من نصف قرن على الاختفاء واللغز ويدعي أنه يعلم كل شيء وأن المهدي بن بركة قد صفي بيد الجنرال الدليمي وبإشرافه وأنه كان ينوي التخلص من الجثة لاجئا إلى خدمات رافي إيتان، فربما يكون أكثر من رغبة ما في إظهار الحقيقة بعد كل هذه السنوات من الغموض.
لقد سبق لصحافيين فرنسيين منذ سنوات الثمانينات، أن أكدوا وجود عناصر من الموساد وسط باريس سنة 1965 كلما كان المهدي بن بركة يكثف أنشطته الدولية أثناء الإعداد لمؤتمر القارات الثلاث في كوبا. وأن الـCIA الأمريكية كانت تتابع خطواته أولا بأول.
لماذا لم يتقرر رفع السرية عن الوثائق السرية المرتبطة بهذا الموضوع، خصوصا أن تقارير تتحدث عن زوجة المهدي بن بركة رفعت عنها السرية، واتضح أن الأجهزة السرية لأقوى دول العالم كانت تتابع تفاصيل حياة المهدي بن بركة وعلاقاته العائلية والعامة إلى آخر لحظات اختفائه تماما من على الشاشة.
سيكون من الغريب ألا تظهر أية تفاصيل مهمة بخصوص هذا الاختفاء، اللهم إلا إشاعات متفرقة تعتمد على الرواية الفردية لأناس سابقين في الأجهزة السرية لا توجد أية أدلة في الأرشيف على صحتها، ولا يمكن تصنيفها إلا في خانة الكذب على الموتى، ما دام المتهمون في أغلبها لا يملكون حق الدفاع عن أنفسهم، وما دام الأحياء الذين يلقون الآن الحجارة في البركة، كان بمقدورهم إلقاؤها عندما كان المعنيون بالرواية على قيد الحياة. لماذا لا تُرفع السرية عن التقارير السرية المرتبطة بالقضية إذن؟