
نعيمة لحروري
مرة أخرى، تتكشف فصول الجريمة المستمرة بحق التراث الجيولوجي المغربي، وهذه المرة على الأراضي الفرنسية.
أسنان ديناصورات مغربية، يعود عمرها إلى ملايين السنين، يتم ضبطها على متن شاحنة مهربة في اتجاه إيطاليا، في تأكيد جديد على أن “مافيا الآثار” لا تزال تعبث بثرواتنا التاريخية دون رادع حقيقي.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: كيف تخرج هذه الكنوز من المغرب في المقام الأول؟ ومن المسؤول عن حماية هذا الإرث من النهب والضياع؟
لسنوات، ظل المغرب مسرحا لعمليات تهريب ممنهجة طالت مستحثات ونيازك وقطعا أثرية لا تقدر بثمن، تباع في المزادات العالمية بأسعار خيالية، بينما تظل الجهات الرسمية في حالة سبات أو عجز عن كبح جماح هذه الظاهرة.
لقد أصبحنا نقرأ عن هذه الجرائم بعد وقوعها في الخارج، وكأننا نكتفي بدور “المتفرج الحزين” الذي لا يمتلك القدرة على حماية تاريخه!!
لكن الفاجعة الحقيقية ليست فقط في التهريب، بل في الإهمال الصارخ لمواقع أثرية داخلية تزخر بالاكتشافات المذهلة، دون أي استثمار حقيقي لها.
منذ عام 2016، أظهرت الدراسات العلمية أن منطقة “تيكري” قرب تندرارة تضم آثارا لديناصورات نادرة، بما في ذلك عظام وأقدام محفوظة في طبقات جيولوجية تعود إلى العصر الطباشيري العلوي، أي ما قبل 80 مليون سنة. ومع ذلك، لم تتحول هذه المنطقة إلى وجهة بحثية وسياحية كما هو الحال في دول أخرى تحترم إرثها.
في دول عديدة، يتم استغلال مثل هذه الاكتشافات بشكل يحقق فوائد علمية واقتصادية ضخمة. المتاحف الجيولوجية والمتنزهات الطبيعية التي تضم آثار الديناصورات في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا والصين تحقق إيرادات بملايين الدولارات سنويا، وتوفر فرص عمل لمئات الباحثين والمرشدين السياحيين.
أما في المغرب، فرغم غناه الجيولوجي الذي يجعله “جنة للعلماء”، إلا أن التهريب هو النشاط الأكثر رواجا، فيما تظل فرص الاستفادة القانونية من هذا التراث شبه منعدمة.
إن استمرار هذا النزيف الثقافي والتاريخي ليس مجرد إهمال، بل جريمة بحق الأجيال القادمة. إن لم تتحرك السلطات بشكل جدي لحماية هذه الثروات عبر قوانين صارمة وإجراءات حازمة، فسنجد أنفسنا أمام مستقبل لا نملك فيه شيئا من ماضينا. تهريب المستحثات لا يقل خطورة عن نهب الثروات المعدنية أو تهريب التحف الفنية، وهو تدمير لذاكرة الأرض التي عاشت فوقها حضارات وكائنات قبل ملايين السنين.
على المغرب أن يسارع إلى إصدار قوانين واضحة تجرم الاتجار غير المشروع بالمستحثات وتفرض عقوبات صارمة على المهربين، مع تشديد الرقابة في المنافذ الحدودية والموانئ والمطارات. كما يجب العمل على إنشاء متحف وطني للمستحثات يكون بمثابة مركز أبحاث ومزار سياحي يعرض الكنوز الجيولوجية المغربية، بدلا من أن نكتشفها في متاحف أجنبية بعد سرقتها.
إننا أمام مسؤولية وطنية وأخلاقية لحماية هذا التراث واستثماره بما يخدم الاقتصاد الوطني ويعزز صورة المغرب كبلد يحترم تاريخه. فهل ننتظر أن نقرأ عن جريمة التهريب التالية في عناوين الصحف الأجنبية، أم أن الوقت قد حان لوضع حد لهذه الفوضى وحماية إرثنا الطبيعي للأجيال القادمة؟