يونس جنوحي
مع بداية كل دخول دراسي جديد تُثار كل مشاكل التعليم، بما فيها مشكل المتعاقدين، وتعقيدات الإدارة، ومشاريع القوانين. يتظاهر المجمدون في السلم والذين يحاولون تسلقه، وحتى الذين يطالبون بالالتحاق. ينضاف إليهم الذين يختارون طواعية نقل أبنائهم من المدرسة العمومية إلى المدارس الفرنسية. ويصرفون دم قلوبهم لكي يتحدث أبناؤهم الفرنسية بدل العربية، لكنهم في الوقت نفسه يحتجون، وبشراسة، ضد مضامين المقررات التعليمية القادمة من فرنسا!
كل هذه المشاكل تُثار ولا يثار مشكل محو الأمية. هذا الورش الذي انطلق منذ أن حصل المغرب على الاستقلال، حظي باهتمام الصحافة الأجنبية في المغرب منذ 1956. وهناك اليوم في أرشيف مجلة «لايف» الأمريكية صور توثق لأولى لحظات إطلاق مشروع محو الأمية، الذي أشرف عليه السلطان محمد بن يوسف.
وفي بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كان هناك مشروع واسع لمحاربة الأمية كان سوف يرى النور في بداية السبعينيات، ويعتمد أساسا على التلفزيون لبث برامج محو الأمية إلى منازل المغاربة، وبتمويل من البنك الدولي، لكن المشروع أقبر قبل أن يبدأ. وتفاصيله وحدها تستحق كتابا للنبش في حيثيات هذا الموضوع الشائك.
بعد أزيد من ستة عقود، ما زالت الأمية معششة في المغرب، ولا تزال نسبة مهمة، خصوصا في صفوف النساء، تعيش خارج الزمن رغم الانتشار الواسع جدا لثورة الاتصالات الرقمية في المغرب.
للأسف، كان لدينا ماض مشرف في محاربة الأمية نُسي تماما وكأنه لم يكن. إذ إن بعض الكتابات التي تناولت موضوع التعليم في المغرب، تحدثت عن فترات عرف فيها المغاربة إجبارية التعليم للذكور. ولم يكن الأمر يتعلق بالإمكانات، حيث إن مدارس عتيقة وسط الجبال وصل صيتها إلى أقصى الشرق، وبرع طلبتها في الفلك والمنطق والجبر، وعلوم اللغة العربية، رغم أنهم كانوا أمازيغ.
جامعة القرويين كانت تنظم حصصا، قبل أزيد من قرن، للحرفيين والصناع التقليديين في فاس. يحضرون الحصص لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وتعلم الحساب، حصص نهارية وأخرى ليلية. بل كان حتى حمالو الأمتعة يحضرون حصصا خاصة بهم، يتعلمون فيها القراءة والكتابة. وبعض تلك الحصص كانت تحضرها النساء أيضا، حيث كانت قاعات الدرس تقسم إلى جناحين.
كما كانت هناك حصص لتعليم «الآلة»، حيث كان معلمو الموسيقى الأندلسية يجتمعون بطلبتهم، لتلقينهم مبادئ المديح والسماع والقصائد والعزف على الآلة.
ورغم أن هذا الكلام مر عليه أزيد من قرن، وربما أكثر، فإنه اليوم لن يجد ترحيبا في بعض الأوساط، التي استوردت نسختها الدينية من الشرق، إلا أن التوثيق لكل هذا يقطع الشك باليقين. بل إن الرابطة المحمدية للعلماء تؤكد أن الموسيقيين كانوا يحضرون أيضا الحصص التعليمية، في جامع القرويين.
جامعة القرويين ليست فقط أقدم جامعة في العالم، بل كانت فعلا جامعة لكل التخصصات والعلوم، حتى الفنون. قبل أن يأتي زمن تعود فيه الأمية إلى التغول، ولا تُسجل أية جامعة مغربية واحدة في ترتيب دولي ضم آلاف الجامعات حول العالم، بل وتتحول المدرجات الجامعية إلى منصات لاستقبال «الدقايقية»، وتمنح الكلمة لمن أصبحوا يعرفون بـ«المؤثرين»، لكي يخطبوا في طلبة الجامعات والمعاهد العليا، يا حسرة.