هل تراجع أردوغان
محمد بدر الدين زايد
سحبت تركيا سفينة البحث والتنقيب «أوروتش رئيس» من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان، وجاء ذلك عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو إلى العاصمة القبرصية، حيث أعرب عن قلق واشنطن البالغ تجاه التحركات التركية شرق المتوسط، كما حث الوزير الأمريكي على وقف كل الأنشطة التركية التي تثير التوتر، داعيا جميع الأطراف إلى توخي السبل السلمية. وإذا كان المتحدث الرسمي باسم الحكومة اليونانية اعتبر هذا أنه خطوة إيجابية، فإن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أكد أن سحب السفينة لا يعني تراجع أنقرة عن حقوقها.
التحرك الأمريكي لم يقتصر على التصريحات المعلنة من قبرص، بل ربما يكون الأهم ما سبقها من رفع واشنطن القيود عن بيع قبرص معدات عسكرية، منهية حظرا أمريكيا عمره أكثر من ثلاثة عقود، كان هدفه آنذاك منع سباق التسلح بين شطري قبرص، وجهود توحيد قبرص، كما كان في الحقيقة يتضمن قدرا من الانحياز للحليف التركي بأهميته الجيواستراتيجية في المواجهة ضد السوفيات آنذاك. ولكن الأحوال تغيرت، وتراجعت أهمية أنقرة نسبيا، وتنبهت واشنطن إلى أن سياستها السابقة أدت إلى تقارب قبرصي روسي مطرد، لم يفرضه تجاهل واشنطن لقبرص في السابق ولا أهميتها في المتوسط فقط، وإنما أيضا روابط بين البلدين من انتماء مشترك للكنيسة الأرثوذكسية، وكنتيجة لتنبه واشنطن لخطورة الاستمرار في دفع قبرص تجاه موسكو- والتي كانت قد وصلت إلى مناح متقدمة، عبر عنها منح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أعلى وسام قبرصي- أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا العام الماضي أعده نواب عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يدعو لإنهاء حظر السلاح عن قبرص، وقد تضمن رفع الحظر أخيرا قيودا على بعض التقنيات الحساسة في قبرص، التي تمنع الجزيرة من تقديم تسهيلات للسفن الحربية الروسية، علما بأن قرار وقف الحظر لمدة عام، تضمن رسالة واضحة لقبرص بأن شرط هذا، وقف الاندفاع تجاه موسكو. وفي جميع الأحوال استقبلت أنقرة القرار الأمريكي الشهر الماضي بالقلق، ووصفته بأنه يسمم جو السلام والاستقرار في المنطقة، وهددت بإجراءات للرد على القرار الأمريكي.
بالمجمل لدينا موقف أمريكي حاسم ضد التصرفات التركية، وموقف أوربي هدد تركيا بوضوح، ولكنه يفتقد القدرة على التأثير، وضجة فرنسية عالية ضد السياسات التركية العدوانية، وتحركات جديدة من ائتلاف بعض دول جنوب المتوسط، وربما لولا محاولات ألمانيا للتوسط بناء على بعض مظاهر الحياد، لكان الموقف الأوربي أسوأ بكثير بالنسبة إلى تركيا، كل هذا يجعل التراجع التركي منطقيا.
ولكن المعضلة مع أردوغان التي يكشفها تحليل سلوكه السابق، وخاصة مع تصاعد ميوله وتوجهاته الإمبراطورية الوهمية، أن الأرجح أن هذا التراجع تكتيكي وليس جادا بعد، فالشواهد تشير إلى أن دوافع أردوغان محملة بنزعة دوغمائية تخلط النزعة التوسعية والإيديولوجية الموظفة للدين في نسيج معقد، تزيده تعقيدا نزعة عدوانية تجاه أي عرقلة لمشروع أردوغان، تجد جذورها في الثقافة السياسية التركية.. من الصعب تجاهل هذا البعد في السلوك التركي السياسي والعسكري تاريخيا، ولا في مظاهر وردود فعل أردوغان على عرقلة مشروعاته الإقليمية، وحالة التمدد الإقليمي الواضحة حاليا، وتحديدا في سوريا والعراق وليبيا ومياه البحر المتوسط. إلا أن أردوغان شعر بتصاعد الرفض والتكتل الإقليمي والدولي ضده، حتى بدا يخشى تحول موقف الوسيط الألماني، الذي لا يزال يمارس قدرا كبيرا من ضبط النفس والتحمل، كوسيلة للحفاظ على تماسك الحلف الأطلنطي من ناحية، ومن ناحية أخرى تحسبا من تداعيات انهيار تركي، ستكون له نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة أوربيا، ولكن حتى هذا الوسيط قد يحول موقفه نتيجة تواصل الضغوط الفرنسية واليونانية، ومن ثم جاء هذا التراجع التركي، على أمل أن تنجح الوساطة الألمانية في إيجاد مخرج مناسب لتركيا من ورطة عزلتها والخناق عليها.