نون النشوة
زينب بنموسى
أحيانا تكمل الحياة سيرها، تأخذ معها حزني، تدفن رماد الذكريات، تعذر قلة حيلتي وتهديني بسمة باهتة ألاقي بها المرآة دون خجل، حتى أقتنع أني فعلا نسيت، وأبدأ بالتعود على العالم من غيرك أو مع غيرك، ويطوي النسيان وجعك. ثم فجأة دون سابق إنذار يعود وجهك كي يتوسد قلبي.
فشل ذريع آخر منيت به هذا المساء بعد مرور مائة وثمانية وسبعين يوما على غيابك، ستة آلاف وست مائة واثنين وسبعين ساعة من جحيم، ملايين الثواني كل منها بجلدة، أحس أني بدأت أفقد قدرتي على الحياة بدونك، أن مذاق الحلوى مر، وأن الطعام مثل الماء لا مذاق له.
هذه المعركة اليائسة التي قدتها بكل جوارحي وأبجديتي ضدك قد أنهكتني، وأنا رغم كل فصائل المقاومة في صدري لم أعد أريد شيئا إلا أن يقبل جندك استسلامي وإلا شنقت نفسي بهذه الراية البيضاء.
فأنا منذ استقر وجهك في رحم روحي أصبحت أشتهي الجلوس وحدي، أستلذ فتح قنينات النبيذ واحدة تلو الأخرى وارتشاف وجهك منها مع كل كأس.
صرت أهوى صوت البيانو والكمان، وحين يصل بي السكر إلى منتصفه أكتب في خانة البحث «بيانو حزين» أو «sad violon» في محاولة فاشلة للحفاظ على ما تبقى من بريستجي.
مقتنعة تمام الاقتناع منذ كنت طفلة أخذها والدها إلى دار الآلة أن الكمان يبكي والبيان يئن، أن الأوتار في الكمان تشبه عروق العين، وأن اللون الأسود في البيانو هو نفسه اللون الموجود في هالات البائسين، وأن النوطات الموسيقية الصادرة عن هذه الآلات هي في الحقيقة صدى صوت أنين ضحايا هذا الوحش الكاسر الذي يدعى الحب.
في أقوى لحظات الصبابة وأقساها كنت أكتفي برسم ابتسامة شاحبة يائسة ضارعة، حزينة على وجهي، ثم أضع يدي على خدي وأسرح في تأمل كل قصص الهوى التي سبقتني، علي أجد فيها بعض الصبر والسلوان عن مأساتي: غسان وغادة، كافكا وميلينا، عنتر وعبلة، قيس وليلى… أتأمل مقدار البؤس الساكن في كل رواية بابتسام، وأستدعي بإصرار عجوز لم يعد يملك شيئا يفقده كل أمثلة الخراب والخسارة السابقة، أتضامن مع زليخة التي رفضها يوسف رغم أنه قد شغف قلبها، وأبكي وجع ابن زيدون لجفاء ولادة، وأتجرع بمرارة ألم أبي نواس.
حتى أني ذات سكر فكرت كم أشبه أبولو، وترجيت الإله أيروس في ظلام الليل أن يسامحني ويسحب سهم الحب الذي رماه في قلبي ووعدته صادقة أني لن أسخر منه مجددا. لكنه لم يستجب، وظل سهمه مغروسا في فؤادي، لا يسليني عن ألمه إلا الصبر الذي استلهمته من كل العشاق فوق، والقناعة التامة أن هذه العاهة التي تسمى الهوى لا يهدأ ألمها إلا حين نتوقف عن المقاومة، خصوصا حين يكون الخصم المحبوب جنديا خبر ساحات الوغى، ولن يحدث الوله في صدره ثقوبا أكبر من تلك التي خلفها رصاص العدو.