شوف تشوف

الرئيسية

نماذج في الاستهتار بالرأي العام

أخطر ما يمكن أن تبتلى به أي دولة هو الاستهتار بالمؤسسات. فقد مضى على رسالة رئيس الحكومة إلى الهيأة العليا للإعلام السمعي البصري وقت غير قصير، ولم تكلف الأخيرة نفسها عناء الرد، مع أن من راسلها يمثل المؤسسة الحكومية التي توجد كافة الإدارات رهن إشارتها، وفق مقتضيات تدبير الشأن العام.
وإذا كانت هيأة الإعلام السمعي البصري مستقلة عن الحكومة وجميع السلطات، فإن ذلك لا يعفيها من تقديم أجوبة حول الاستفسارات الحكومية، بصرف النظر عن نوعية الأجوبة ومضمونها وحيثياتها. ففي وسعها أن تقول إن عبد الإله بنكيران تجاوز صلاحياته مثلا، أو تلوذ إلى أنه لا يوجد في قوانينها التنظيمية ما يلزمها بالرد، فالأهم هو أن تقابل طلب رئيس الحكومة بما يليق به من اعتبار، وإن كان لها رأي آخر في الموضوع.
أبعد من هذه الحالة المستعصية على الفهم، أن موضوع الاستفسار ليس سياسيا، كي يقال بأن مجاراة الهيأة لهكذا استفسارات يتجاوز صلاحياتها، وهي المسؤولة عن حفظ التعددية في وسائل الإعلام الرسمية الناطقة والمصورة. إنه أخلاقي صحيح، لكنه فوق هذا وذاك يهم العلاقة بين وسائل الإعلام والمتلقين، وحين تكون هناك فئات وشرائح ترفض اقتحام العري لبيوتها، يصبح حريا بكل من له مسؤولية لوقف هذا التردي أن يدخل على الخط. أقله لناحية احترام حميمية وكرامة الأسر المغربية التي جاهرت برفض الميوعة والانحلال. فهي حين تماطل في الإجابة، على الأقل لأن الرأي العام لم يسمع بعد صوتها في الموضوع، تكون ناهضت مبدأ الحوار بين المؤسسات، كي لا يتهمها أحد بالانحياز لهذا الطرف أو ذاك، خصوصا وأن موقفا سابقا في التعاطي وقضية دفاتر تحملات القطب العمومي أدى إلى إطاحة بعض رؤوسها، في إشارة إلى أن المطلوب منها وضع مسافات متباعدة عن الجميع.
نعرض هنا إلى قضية مبدئية، من دون الالتفات إلى مضامين الأفعال وردودها. فالاختلاف مع رئيس الحكومة الذي يكون طبيعيا، في ظل تعدد الآراء والمواقف، لا يستبيح إهمال رسالته، كونها صادرة عن مؤسسة رئاسة الحكومة، وليس عن الشخص أو زعيم «العدالة والتنمية». وهذا نموذج للاستهتار الذي يخلط بين الأوراق والمسؤوليات. كذلك فإن تصنيف بعض وسائل الإعلام الرسمية لنفسها في خانة معارضة الحكومة التي يقودها الإسلاميون لا يستوي مع واجب الحياد وأحقية الرأي العام في الاطلاع على أعمال الحكومة، كما المعارضة والمؤسسة التشريعية ومختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع، وليس دور الهيأة العليا للإعلام السمعي البصري أن تحمي هذا المنبر أو ذاك، أو تغض الطرف عن تجاوز هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك.
جاء تأسيس الهيأة في فترة دقيقة أنهت مع مفهوم احتكار الحكومة لأجهزة الإعلام السمعية البصرية، وهو ذو طبيعة تحكيمية في أساسه، وذو أبعاد ديمقراطية في جوهره، لناحية صون التعددية الفكرية والسياسية. لكن القيم الأخلاقية تظل هاجسا مشتركا بين الجميع، وليس باسم الإبداع وحرية الرأي، يمكن ضرب هذه المقومات، وبالتالي يصبح من صميم مسؤولية الهيأة أن تصون القيم والمقومات الاجتماعية والأخلاقية.
وإذا كان لها رأي مخالف في الأسلوب أو الطريقة أو منهجية طرح مثل هذه الإشكالية، فمن حق الرأي العام عليها أن تبادر إلى وضعه في الصورة، أقله لدرء أي تأويلات مجانبة للصواب. وينضاف إلى هذا الموقف أن بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين حكوميين لجهة اعتبار شريط عيوش غير خادش للحياء، من شأنها أن تفتح الباب أمام المزيد من المحاولات على نفس النسق. ذلك أن ردود الفعل المناهضة لتحويل الإبداع إلى نوع من الارتزاق بالأجساد والتشوهات التي لا يخلو منها أي مجتمع، مصدر وقف النزيف الذي يهدد بالانتشار إلى أشياء أخطر. ومن شأن هذا التذبذب أن يخلق مناطق التباس لا حاجة للبلاد بها.
بعلاقة مع مفهوم الاستهتار الذي أصبح سائدا، ما فتئت إحدى مؤسسات التحقق من نسب مشاهدة القنوات التلفزيونية ماضية في تلهية الجمهور بأرقام، ليس من المبالغة القول أنها لا تستند على معايير موضوعية، فالرأي العام لا يعرف شيئا عن طرائق احتساب هذه النسب أو عينات الأشخاص والأسر والمدن والأقاليم التي بنيت عليها. والمفارقة أنه في الوقت الذي تكاد تعرف فيه الأرقام الحقيقية لأعداد البيوت الذين غيروا في اتجاه التلفزة الرقمية التي دخلت حيز التنفيذ، تستمر أرقام إحدى المؤسسات على وتيرتها، وكأن شيئا لم يحدث.
المعروف أن توقيت الخطب الرسمية لملك البلاد محمد السادس تستأثر باهتمام كافة شرائح المجتمع، فهي مقياس ذروة المشاهدة، إذ تخلو الشوارع ويتسمر الناس أمام الشاشة الصغيرة، فكيف يتم الترويج لأرقام متقاربة أثناء بث مسلسلات أو أعمال تلفزيونية لا تكاد تثير حماس المشاهدين. وإذا كانت مباريات الفريق الوطني لكرة القدم تشكل بدورها مقياسا بذروة المشاهدة، فإنه لا مجال للمقارنة بين الإقبال عليها وما تتحفنا به الأرقام السخية التي يبدو أن وراءها أهدافا أخرى، لا علاقة لها بالمهنية والموضوعية في احتساب نسب متابعة الجمهور.
كافة مؤسسات احتساب نسب المشاهدة تنشر تفاصيل إضافية عن العينات التي اعتمدتها وعن الفترات التي شملها الاستطلاع، وكذا الأماكن والمجالات، ما يجعلها أقرب إلى المصداقية، لكن المشكل عندنا أن لا شيء من هذا يحدث، فقط هي شكليات تمرر خطابات الارتياح. وتبرر طرائق صرف المال العام على إنتاجات أغلبها يصنف في خانة الرداءة والميوعة وقلة الذوق.
أليست المسألة جديرة بالمساءلة، ماذا لو أن لجنة نيابية فتحت هذا الملف لوضع الرأي العام في صورة ما يكتنفه من غموض. الراجح أنه لو تم ذلك لشكل بداية الطريق أمام الإحاطة بحقيقة إخفاق قنوات القطب العمومي. ولأن أحدا لا يرغب في رؤية الحقيقة كما هي من دون أصباغ أو مساحيق، سنظل نلهو بالوهم، فيما جمهور المتلقين ابتعدوا كثيرا عن الشاشة الصغيرة، بحثا عن الفرجة والتوعية والمعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى