مولاي هاشم العلوي يسلط الضوء على 58 سنة من أعطاب إصلاح القضاء بالمغرب
من الداخل، يتحدث مولاي هاشم العلوي عن مسار الإصلاح القضائي في المغرب منذ سنة 1956 إلى اليوم، ويرصد أهم المحطات الإصلاحية للعدل والأخطاء التي ارتكبت على عهد الحكومات.. لكنه يفرد الحيز الأهم من كتابه لتجربة الحكومة الحالية وما توفر لها أكثر مما توفر لغيرها من الحكومات، من آليات للاشتغال للتقدم في إصلاح القضاء، ويفرد لها مجموعة من الملاحظات التي من شأنها أن تفشل الحوار الوطني.
«.. في اعتقادنا الجازم أنه حتى في ظل الدساتير السابقة لدستور 2011 بما فيها دستور سنة 1962، كان بالإمكان إعداد بنية تحتية صلبة لنظامنا القضائي، يجدها التحول بالغ الأهمية والتطور الذي أرساه الباب السابع من دستور المملكة لسنة 2011، جاهزة بكل المدلولات. لو تم تمديد نص وروح مبادئ أحكام الدساتير السابقة على علاتها، والتوجهات العامة المعلنة في برامج السياسة العامة حول القضاء كمبادئ واختيارات، إلى مجال القانون.
صحيح أن الإدارة السياسية لإصلاح عميق وهادف للقضاء كانت تغيب في مراحل معينة، تبعا لظروف تاريخية وسياسية معينة، لكن الإرادة السياسية توفرت في مراحل أخرى».
الكلام هنا لهاشم العلوي، والفقرة مقتطفة من كتاب جديد، يعالج موضوع الإصلاحات القضائية ما بين سنوات 1956 و2014. هذا الكتاب يقدم أبرز محطات مخططات الإصلاحات القضائية، ومعركة تنزيلها على أرض الواقع، ويخلص إلى حصيلة أزيد من 58 سنة تشكل مسار الإصلاحات القضائية بالمغرب.
يقول ذ. هاشم العلوي، إن تجربة أزيد من أربعين سنة اشتغل خلالها في مهام قضائية متعددة، ومهام أخرى لها علاقة بالقضاء، أتاحت له أن يواكب عن قرب، ومن الداخل، ثقافة سياسة العدل بالمغرب، وتدبيرها وتنزيل الإصلاحات القضائية.
يصف هاشم العلوي في هذا الكتاب، المراحل التي مر بها القضاء بالمغرب، بالمخاض العسير وطويل الأمد من التجارب الإصلاحية التي عرفها النظام القضائي منذ 1956.
ملاحظات بالجملة
ستجد وزارة العدل نفسها، أمام إكراه التخلص من الإرث الفرنسي لما قبل سنة 1956، واستمر هذا الأمر في مرحلة عانت فيها الوزارة من خصاص في الموارد البشرية والصراع حول استراتيجية لتأسيس قطاع العدل بالمغرب. هكذا سيدخل المغرب في اتفاقيات مع فرنسا ثم مع إسبانيا، مباشرة بعد إلغاء المحاكم المخزنية. هذا الأمر رافقه وضع تنظيم هيكلي لوزارة العدل بمفهومها الجديد. سيصبح النظام القضائي في المغرب منصبا على تنفيذ قانون 1965، والذي حمل أوجها جديدة لتطبيق قانون بالمغرب، شابته الكثير من الأمور والملاحظات، وهذا الأمر أثر على الإصلاح القضائي ووثيرة تسريعه بشكل كبير.
هذا القانون، صدر في وقت كان فيه النقاش متقدا حول المغربة، والتعريب.
هل كان من الضروري أن يسلط الكتاب الضوء على هذه المرحلة المبكرة من تاريخ القضاء بالمغرب؟ الجواب هو أنها ارتبطت بإصلاحات أخرى بعدها، وشكلت تأثيرا كبيرا على سيرورة المحاولات المقبلة لتطبيق الإصلاحات القضائية بالمغرب.
ملاحظات بالجملة، سطرها الكتاب، في محاولات واجتهادات لوضع الأمور في سياقها السياسي والتاريخي الملائم، ليبدو لنا أن هناك إصلاحات متقدمة كان مسطرا لها أن تبدأ مبكرا في المغرب، وتنتج لنا نظاما قضائيا متقدما، لكن الواقع أراد غير ذلك، لتتخبط تلك الإصلاحات بمجموعة من العراقيل ليس أولها القضايا السياسية الشاغلة، وليس آخرها إكراه الموارد البشرية، خصوصا في البدايات.
التجارب المرهقة للتنظيم القضائي
يخلص الكتاب إلى أن تجربة إصلاح سنوات السبعينات كانت مرهقة بكل المقاييس. كان من بين النقط المراد إدراجها في إصلاح القضاء، تقريبه أولا من المتقاضين وضمان النجاعة القضائية، لكن الحصيلة كانت، سنة 1974، مرهقة وزادت من تعميق هشاشة ركائز استقلال القضاء. بهذا الخصوص يقول ذ. هاشم العلوي: «تتجسد هذه الهشاشة في مستويين بالغي التأثير. أولهما الصفة القضائية لحكام الجماعات، وثانيهما تقوية صلاحيات وزير العدل في تدبير الوضعيات المهنية للقضاة من يوم التعيين إلى غاية الإحالة على التقاعد».
لحكام الجماعات والأبعاد الجهوية لتنزيل القضاء، علاقة مباشرة بهشاشة النظام القضائي في المغرب. هذا الأمر مرتبط أيضا بفشل تقريب القضاء من المتقاضين في نفس المرحلة.
الإصلاح القضائي، ظل واحدا من أهم المشاريع التي توضع على طاولات الحكومات المتعاقبة، لكن حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي، كانت واحدة من الحكومات التي طولبت أكثر من غيرها بمباشرة إصلاح قضائي حقيقي بالبلاد. بهذا الصدد يقول هاشم العلوي: «لأزيد من ثلاثة عقود ونصف من صدور دستور سنة 1962، لم تجتمع كل مكونات الحركة الوطنية على حكومة واحدة إلا ابتداء من سنة 1998 في إطار تحالف توافقي ضم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، وحزب التقدم والاشتراكية والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، إلى جانب شخصيات مستقلة. وإن هذا المعطى بالنظر لأدبيات وبرامج أحزاب الكتلة الديمقراطية، كان آنذاك معطى دالا على توفر الإرادة الحكومية لإصلاح هيكلي عميق للقضاء، علق عليه الإجماع الوطني آمالا كبيرة».
إلى هنا يبدو أن التجربة سيكون لها ما بعدها. ويقدم الكتاب تحليلا معمقا للآليات التي وضعت رهن إشارة الإصلاح القضائي الجديد في عهد حكومة التناوب وعلاقتها بالمواثيق الدولية الجديدة لما بعد سنة 1998 وتعزيز استقلالية القضاء بالمغرب. لكن تجربة ذ.هاشم العلوي في دواليب القضاء والعدل المغربي، جعلته يقدم تصورا عن هذه المرحلة، ويحدد مجموعة من الاختلالات، التي تخللت هذا الإصلاح، وإشكالية رئاسة السلطة الحكومية بالإضافة إلى اختلالات متعلقة باختصاصات المجلس الأعلى للقضاء ورئاسة النيابة العامة.
إصلاح القضاء ودستور 2011
عندما دخل المغرب منعطف سنة 2011 بما حملته من أحداث على الصعيد الإقليمي والوطني، وتداعيات ما عرف بالربيع العربي، فإن القضاء المغربي أصبح أمام لائحة من المطالب الإصلاحية بعد دستور 2011.
ذ.هاشم العلوي يفرد في كتابه محاور خاصة، تذهب في اتجاه تحليل ما كان على أرض الواقع، وربطه بما جاء به دستور 2011، ومسؤولية حكومة بنكيران، ووزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، أمام هذا الدستور الجديد. يقول العلوي بخصوص إشكالية هشاشة الثقة في القضاء: «من المسلم به أن القضاء المغربي يعاني من إشكالية هشاشة ثقة مجتمع المتقاضين في قضاته، والتشكيك في فاعليته وأدائه ومردوديته واستقلاله.. الذين يشرفون قضاء بلدهم في مختلف المحاكم، يشكل بعضا من الكل. وإن هذا البعض من الصالحين ولو بلغ 70 بالمائة أو أكثر من أصل 3500 قاض، لن يتمكن من إسقاط الحكم المجتمعي كون القضاء ببلادنا يعاني من هشاشة الثقة».
يواصل الكاتب بالقول إن الدستور الجديد وضع قواعد بالغة الأهمية للتأسيس الدستوري حتى تتأسس ثقة المجتمع في القضاء، لكن تنفيذها يحتاج إلى قضاة أكفاء، وإلى إرادة حقيقية من وزير العدل، حتى يستفيد من القواعد المتقدمة التي يخولها الدستور الجديد.
هذه أخطاء بنكيران والرميد في عملية إصلاح القضاء
حتى تكون إفادة ذ. هاشم العلوي مكتملة، كان لا بد له أن يضع مجموعة من الملاحظات، بخصوص المخطط الشامل لإصلاح منظومة العدالة، وهو المخطط الذي وضعته وزارة العدل والحريات برسم الفترة ما بين 2012 و2016. هذه الإصلاحات ينظر إليها ذ.هاشم العلوي بعين الخبير في حقل العدل والقضاء بالمغرب.
الملاحظة الأولى تهم مسألة الحوار الوطني. ويرى هاشم العلوي أن مجموعة من التوصيات السابقة والتي تعود لسنوات خلت، والتي أطلقتها مؤتمرات الجمعيات الحقوقية الفاعلة في المغرب، وعلى رأسها هيأة المحامين بالمغرب والجمعيات الحقوقية الوازنة ذات الصلة بالعدل والقضاء والتوصيات الصادرة عن هيئات حقوق الإنسان وعلى رأسها هيأة الانصاف والمصالحة، بالإضافة إلى الآراء والتصورات التي شكلت موضوع الاستشارات التي أجرتها وزارة العدل في بحر سنة 2010 مع نفس هذه الهيئات والفعاليات على ضوء الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2009.
هذه التوصيات، حسب ذ.هاشم العلوي دائما، تغني عن توصيات تكرر نفسها في شكل ميثاق وطني يفترض فيه أن يكون سابقا على صدور الدستور وليس لاحقا له، خاصة وأن المبادئ والأحكام الدستورية الجديدة، تعتبر ثمرة مسار مكثف من الكفاح الحقوقي الهادف لهذه الفعاليات التي كانت تشدد منذ مدة طويلة على أن الاصلاح الدستوري يعتبر المدل الرئيسي للإصلاح العميق للقضاء.
الملاحظة الثانية تهم المهن المرتبطة بالقضاء والعدل. هذه المهن التي تدخل في صلب منظومة العدالة التي يجب إصلاحها، تشكل تحديا إصلاحيا حقيقيا من شانه أن يدعم مسار الإصلاح.
رغم الأهمية التي تمثلها هذه المهن، إلا أن الحيز المخصص لها في برنامج الحوار الوطني لمنظومة المهن المرتبطة بالعدالة، لم يتعد ندوة واحدة تحت عنوان «تأهيل المهن القضائية»، وذلك من أصل ثمان ندوات خصصت كلها للقضاء. جاء هذا بالرغم من أن موضوع المهن المرتبطة بالقضاء، استنفذ حيزا مهما من النقاش العام والحوار والتنظير الذي سبق إعداد البرنامج من طرف وزير العدل والحريات. يقول الكتاب: «إن المقارنة بين مضامين وتوصيات الميثاق الوطني المتصور أن تصدر عن أشغال المؤتمر الوطني في بحر سنة 2013 وبين المطالب السابقة لوضع دستور في 2011 في مجال القضاء المقدمة من طرف نفس المكونات المشرفة والفاعلة في الحوار الوطني الذي أعقب صدور الدستور، هي الكفيلة بالحكم على مدى وجاهة ومردودية هذه المنهجية في جانبها المتعلق بالقضاء».
الملاحظة الثالثة، تهم مسألة التوفيق بين التزام وزارة العدل في البرنامج الذي حدد متم سنة 2012، أجلا لوضع مشروعي القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبين الالتزام بجعل الميثاق الوطني الصادر عن أشغال الحوار الوطني مرجعا لمشاريع القوانين التنظيمية وما سيتبعها من مراسيم تطبيقية. والحالة أن مسلسل الحوار الوطني لن ينتهي إلا في بحر السنة الموالية وتحديدا في بحر سنة 2013!
النتيجة أن الأمر كله سيعرف إما إخلالا بالالتزام الأول أو الالتزام الثاني. وفي حالة الإخلال بالالتزام الثاني، فإننا سنصبح أمام إشكالية إفراغ الهدف من الحوار الوطني من مضمونه المتعلق بجانب القضاء مما سيؤثر سلبا على إدماج مكونات الحوار الوطني.
أما في ما يخص الملاحظة الرابعة، فإنها تطرقت لطبيعة قواعد قانون التنظيم القضائي، وهي أمور تتفصل في أنواع تلك القواعد وما يتعلق بها من جوانب قضائية وقانونية، من شأنها أن توضح رؤية إصلاح القضاء، وسجل الكتاب بخصوصها بعض الملاحظات التي يمكن اعتبارها معيقات أمام العملية الإصلاحية.
الملاحظة الخامسة والأخيرة، تتطرق لمسألة تبعية مؤسسة النيابة العامة، ثم جهاز تفتيش المحاكم، لوزير العدل والحريات. فالدستور الجديد لم يحسم في أمر تبعيتهما وتركها للقانون، والأجدر أن يتم الحسم في الأمر، لأنه محوري في عملية إصلاح القضاء ويجب الحسم فيه.
علما أن هناك موقفا واضحا يدعو إلى فك ارتباطهما بوزير العدل، والإشكال المطروح هنا ماذا سيكون الحل إذا اقتضت الأمور أن ينتهي الحوار الوطني، في السنة المقبلة، إلى فك هذا الارتباط بوزير العدل والحريات، وربط النيابة العامة وجهاز تفتيش المحاكم بجهة قضائية عليا، تماشيا مع مطالب الهيئات الحقوقية على المستوى الدولي يتسائل الكتاب إن كانت القناعة الحكومية تسير في اتجاه استمرارية النظام القانوني الحالي.. الخلاصة أن هذا الوضع سيطرح إشكالية التوفيق بين الالتزام الحكومي بموقف الحوار الوطني المعلن في الميثاق الوطني، وبين حق دستوري للحكومة في اعتماد موقفها في صلب مشروع القانون الذي تعود لها سلطة وضعه وعرضه على البرلمان مساندة بالأغلبية الحكومية داخلى البرلمان. هذا الأمر يترتب عليه إفراغ مبادرة الحوار الوطني من مضمونها وأهدافها!