خلال حكومة جطو وضعت وزارة الصناعة والتجارة خطة في أفق 2020 اسمها “رواج”.
والحق يقال فمنذ ذلك التاريخ والمغرب يشهد “ترويجا” منقطع النظير، نسبة إلى “الروج” طبعا وليس إلى الرواج. بحيث أصبح المغرب يحرز المرتبة الأولى عربيا في صناعة “الروج” و”البيرة”.
وحسب نتائج دراسة أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط حول إنتاج الخمور في المغرب، فالمغاربة يشربون الروج والبيرة أكثر من الحليب، ويستهلكون حوالي خمسين مليون لتر من المشروبات الروحية، بينها ثلاثون مليون قرعة من الروج.
والمغرب ينتج الآن حوالي ثلاثين مليون لتر سنويا من الخمور لثلاثين مليون نسمة، بمعدل إطرو ديال الروج لكل مواطن.
وتحتل منطقة بني ملال الصدارة على المستوى الوطني في استهلاك البيرة، بمعدل ثلاثة ملايين ونصف مليون قنينة سنويا، متقدمة على الدار البيضاء نفسها. أما بخصوص الروج فإن مدينة الجديدة عاصمة دكالة تأتي في مقدمة الترتيب. فيما تحصل البوادي والقرى المغربية على قصب السبق في استهلاك الماحيا.
عندما كان الإسلاميون في المعارضة كانوا ينادون، عبر نائبهم البرلماني آنذاك لحسن الداودي، بفرض ضرائب إضافية على الخمور، وقد كان لوبي صناعة الخمور يحقق عائدات خيالية إلى درجة أن زنيبر ملك الخمور في المغرب نظم مهرجانا لتذوق النبيذ في مكناس على عهد الوالي الأسبق حسن أوريد، عاشق النبيذ المعتق والذي كانت تصله “الملزومة” بشكل منتظم من ضيعات زنيبر، شأنه في ذلك شأن كبراء القوم.
ورغم وجود بعض قياديي العدالة والتنمية على رأس بلديات بعض المدن كتطوان ومكناس إلا أنهم ظلوا يمارسون النفاق السياسي، أي يستفيدون من عائدات تجارة الخمور ويهاجمون منتجيها ومستهلكيها.
واليوم عندما فضح الأمين بوخبزة في تطوان رئيس
المجلس الذي ينتمي إلى العدالة والتنمية وقال إن هذا الأخير كان يصرف أموال دافعي الضرائب على نانسي عجرم وراقصات الفلامينكو الإسبانيات، وما يرافق ذلك من أكل وشراب، تم توقيف بوخبزة عقابا له على تطويله لسانه على رئيس المجلس البلدي.
اليوم نرى كيف أن الدار البيضاء التي أصبح يسيرها عماري العدالة والتنمية ستشهد تنظيم أول مهرجان للبيرة. ورغم أن هذا المهرجان يضرب في الصميم صورة الحزب الذي يسير الدار البيضاء إلا أننا لم نسمع للحسن الداودي حسا، فالأخ الذي عانى من تداعيات الإدمان إلى درجة أنه ذات ليلة أخذ الطائرة وذهب إلى مونتريال بكندا لكي يقتحم علبة ليلية متسببا في جلبة كبيرة انتهت به في مركز للشرطة، يبدو أنه نسي الماضي الذي كان فيه من كبار مناهضي الكحول.
عوض أن يكون لحزب العدالة والتنمية الحاكم موقف صارم من الكحول نرى أن معارضتهم لهذه الآفة لا تتعدى الجانب الضريبي.
فهم يعتقدون أن مستهلكي الخمور هم من الطبقة المرفهة، فهل صحيح فعلا أن تجارة الخمور في المغرب يمكن أن تعول على طبقة المرفهين لكي تستمر في تحقيق كل هذه الأرباح السنوية التي تقدر بالملايير.
لا أعتقد، فأكبر مستهلك للخمور في المغرب هم المغاربة المنحدرون من الطبقات الوسطى والفقيرة. وأغلب المغاربة لا يشربون مثلما تشرب الشعوب المتحضرة، وإنما يشربون من أجل أن يسكروا. والفرق كبير بين من يشرب كأسا أو كأسين من النبيذ مع طعام الغذاء أو العشاء، وبين من يجلس من الخامسة مساء وقد وضع أمامه كتيبة كاملة من «بولعوان» أو «موغرابي» لا يقوم عنها إلا وقد أفرغها كاملة في جوفه.
ولعل أحد المشاكل العويصة التي أصبحت تشكو منها أغلب الهيآت الدبلوماسية هي كيف تدعو بعض الصحافيين والسياسيين والمثقفين المغاربة لحفل خاص أو مناسبة وطنية تقيمها في سفاراتها أو مقرات إقاماتها، دون أن تضطر لإخراجهم محمولين على الأكتاف بسبب عدم قدرتهم على الوقوف.
وكم صحافيا ذهب لكي يغطي ندوة يعقبها كوكطيل فيه مشروبات روحية، فنسي ليس فقط التغطية وإنما أيضا نفسه وباب منزله وبات في الشارع.
المغاربة لا يعرفون كيف يشربون. لأن أغلبهم يشرب لكي ينسى وليس لكي يستمتع. وربما كان المغاربة الشعب الوحيد الذي بمجرد ما يشرب أحدهم حتى يبدأ في البكاء، وآخرون يشربون وينخرطون في موجة من الضحك، وهناك نوع آخر يكون أكثر هدوءا من حمل وديع، وبمجرد ما يسخن رأسه حتى تزنزن له الذبانة في أذنيه ويتحول إلى ثور هائج يحطم كل شيء يجده أمامه.
والخمور لم تكن أبدا في يوم من الأيام حكرا على الأغنياء. بل إن الفرق الوحيد بين خمور الفقراء وخمور الأغنياء هي أن لكل واحد خمرته التي يستحق. وهناك فنادق وعلب ليلية يكون فيها زبائن يستطيعون فتح قناني تساوي فيها القنينة الواحدة من النبيذ راتب موظف في السلم الحادي عشر. وهناك بارات حقيرة يشرب فيها مغاربة الطبقة الوسطى والفقيرة بيرة وطنية تصلح أكثر لعلاج الجروح بسبب نسبة الكحول المرتفعة فيها، ويسكرون بنبيذ تستطيع رائحته الحامضة أن تصيب فيلا بالغيبوبة.
كل هذا لكي نشرح بأن المغاربة يشربون كثيرا. ربما أكثر من اللازم. والذين يخشون على السياح والأجانب من ارتفاع الضريبة على الاستهلاك الداخلي للكحول ما عليهم سوى أن يذهبوا إلى مراكز بيع الخمور لكي يتأكدوا من أن زبائن شركات إنتاج الخمور في المغرب الحقيقيين ليسوا سياحا ولا أجانب، وإنما مغاربة أبا عن جد. ولو عولت هذه الشركات على أولئك السياح والأجانب الذين يقصدون هذه الأسواق لاقتناء زجاجة نبيذ وبيرتين مرة في الأسبوع، لكانت أفلست وهبطت الريدو منذ سنوات طويلة.
لقد كان على الحزب الحاكم أن يكون صارما مع لوبي الخمور، بحيث لا يقتصر فقط على الرفع من الضريبة على الاستهلاك الداخلي للكحول، رغم أن هذا الإجراء سيزيد من أرباح الخزينة العامة، وسيزيد كذلك من أرباح الشركات المنتجة للخمور التي ستلجأ إلى الرفع من أسعار مشروباتها في الأسواق. والذي سيدفع الثمن هو المستهلك المنتمي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
لذلك فالمطلوب من الحكومة أن تقوم بمثل ما تقوم به حكومات الدول التي تعاني اليوم مشاكل صحية واجتماعية وأخلاقية بسبب ارتفاع استهلاك المشروبات الكحولية بين المواطنين، وخصوصا الشباب. كما هو الحال بالنسبة للمغرب.
المغاربة سيستمرون في الشرب حتى ولو ارتفع ثمن الشراب. والمدمن على الشرب يستطيع أن يتدبر ثمن شرابه بكل الطرق الممكنة، بل وبأحطها وأعنفها أحيانا. لذلك فالتوعية تبقى أهم سلاح للحد من انتشار تعاطي المشروبات الروحية. وهنا يتحمل الإعلام العمومي مسؤولية أساسية، وإذا كان من جهة يجب شن حرب برلمانية ضدها لكي تستفيق من سباتها وتلعب دورها التربوي الذي من أجله أنشئت، فهي وسائل الإعلام العمومية. يجب التنديد بصمتها المطبق كلما تعلق الأمر بخطر الإدمان الذي يتهدد الملايين من المغاربة. ويكفي الآن من هذا الخطاب المنافق الذي يريد أن يقنعنا بأن من يحارب انتشار تعاطي الكحول فإنما يحارب أحد أهم موارد الخزينة العامة للمملكة (حوالي 774 مليون درهم سنويا).
إن من يحلل الوضع بهذه الطريقة الاقتصادية السطحية يكشف عن قصور كبير في رؤيته للمستقبل. فهو ينطبق عليه ما يقوله المغاربة في هذا الخصوص «شاف الربيع ما شاف الحافة». فهو يرى الأرباح ويتجاهل أن خزينة المملكة ستكون مجبرة بعد سنوات قليلة على تحمل مصاريف الرعاية الطبية والاجتماعية التي سيتسبب فيها الإدمان للمواطنين. ولماذا سننتظر المستقبل، مادامت وزارة النقل والتجهيز نفسها اعترفت بأن نسبة مهمة من حوادث السير يقف وراءها الخمر.
هذا دون أن نتحدث عن الأسر التي تتمزق بسبب الإدمان، والطاقات الخلاقة التي نفقدها يوميا بسبب الغرق في بئر الشرب اليومي الذي بلا قرار. ويعلم الله كم فقد المغرب بسبب الإدمان من كاتب كبير كان يمكن أن يعطي الكثير لبلده، وكم فقد المغرب من صحافي لامع كان يمكن أن يحمل لواء هذه المهنة إلى أبعد خندق. لكنهم سقطوا في الطريق عبيدا للويسكي والفودكا والروج الرخيص. بعضهم يبيع قلمه ليشرب وبعضهم الآخر كسر قلمه وجلس ينتظر ثملا نهايته.
إن أهم شيء يجب أن تنادي به المعارضة في البرلمان هو إجبار وزارة الصحة على تبني مشروع عاجل لإنشاء مراكز عمومية للعلاج من الإدمان. وإجبار الإعلام العمومي على فتح النقاش في برامجه للحديث عن هذا الطابو وتحطيمه، حتى يتشجع المدمنون على تقبل مرضهم والقبول بالخضوع لعلاجه.
وإذا كانت الدول العلمانية تأخذ مستقبل شبابها على محمل الجد، وتحذرهم من مخاطر الكحول على الصحة العامة والمستقبل العلمي للبلد، فلماذا يخاف المغرب المسلم من اقتحام هذا الطابو ويفضل بالمقابل السماح لشركات أجنبية بإقامة مهرجانات للبيرة تحت أنف حكومته التي يقودها حزب إسلامي ؟